المبحث الثالث: المراد من أهل البيت : أولاً : دلالة الأية الشريفة : اختلف المفسرون في بيان ما هو المراد من " أهل البيت " في الآية المباركة على عدة أقوال: وهي : الأول: بنت النبي (ص) وصهره علي بن أبي طالب وولداهما الحسن والحسين (ع) . الثاني: نساء النبي ( ص) . الثالث: البيت الحرام، وأهله هم المتقون على الإطلاق، لقوله تعالى { إن أولياؤه إلا المتقون }الأنفال : 34 . الرابع: البيت هو مسجد الرسول ( ص ) وأهله من مكنه رسول الله (ص) فيه، ولم يخرجه ولم يسد بابه . الخامس: البيت هو مسجد الرسول ( ص) وأهله هم المقيمون حوله . السادس: المراد من تحرم عليهم الصدقة وهم ولد أبي طالب (ع) وهم: علي وجعفر وعقيل، وولد العباس( رض) . وسوف نبحث عن ذلك، إلا أن ما يهمنا هو " القولين الأوليين " . إن المتمعن في الآية الشريفة، والمدقق لأسرارها، والفاحص عن ذلك في السنة المقدسة الشريفة، لا يرتابه شك في أن المراد بـ " أهل البيت " هم الرسول (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين . ونستطيع أن نثبت ذلك من ناحيتين: الأولى من ناحية دلالة الآية الشريفة، والأخرى من ناحية السنة المقدسة . أولاً: ما يتعلق بدلالة الآية الشريفة، ففيها عدة قرائن تخرج أزواج النبي (ص)، وتحصر الآية بأهل البيت المخصوصين، وهم النبي محمد (ص) وعلي وفاطمة والحسنين (ع)، فنقول : القرينة الأولى : تذكير الضمائر : نرى أن الله تعالى قد غير الضمائر من ( نون النسوة ) إلى ( ميم الجماعة )، حيث الخطابات في سوى هذه الآية في اثنين وعشرين موضعاً كلها جموع مؤنثة ـ منها عشرون قبل الآية، واثنان بعدها ـ تعني نساء النبي صلى الله عليه وآله، أما في الآية الشريفة، ففيها جمعان مذكران، يعنيان الذكور من أهل البيت (ع)، وإنما عبر بضمير الذكورية في هذه الآية بالرغم من اعتبار وجود الزهراء عليها السلام للتغليب، إذ كانوا أربعة ذكور وأنثى واحدة فقط . إذ لو صح أن المراد بها أزواج النبي صلى الله عليه وآله، فلماذا اتفق في عشرين موضعاً قبل هذه الآية بنون النسوة، ثم يعدل إلى الضميرين المذكرين، ثم يعدل مرة أخرى إلى الضميرين المؤنثين ؟! . إذاً فإن السر في تبديل الضمائر من التأنيث إلى التذكير هو تغير المراد، فلا يريد نساء النبي صلى الله عليه وآله . وقد حاول القرطبي التفصّي عن الإشكال فقال: إن تذكير الضمير يحتمل لأن يكون خرج مخرج " الأهل " كما يقول لصاحبه، كيف أهلك، أي كيف امرأتك ونساؤك ؟ فيقول هم بخير، قال الله تعالى { أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } انتهى قوله . ولكن المحاولة فاشلة، فإن ما ذكره من المثال على فرض سماعه من العرب، إنما إذا تقدم "الأهل" وتأخر الضمير، دون العكس كما في الآية، فإن أحد الضميرين مقدم على لفظ "الأهل" في الآية كما قاول { عنكم الرجس أهل البيت } . وأما الاستشهاد بالآية فغير صحيح، لأن الخطاب فيها لإبراهيم وزوجته، فيصح التغليب، أي تغليب الأشرف على غيره في الخطاب، والمفروض في المقام أن الآية ( أعني آية التطهير ) نزلت في زوجاته ونسائه خاصة(ص)، فلا معنى للتغليب . نعم إنما تصح فكرة التغليب لو قيل بأن المراد منه، هو أولاده وصهره وزوجاته، وهو قول ثالث سنبحث عنه إن شاء الله تعالى، مع بقية الأقوال الأخرى . إضافة إلى ذلك فإن الآية التي استشهد بها في مقام الحكاية عن الخليل عليه السلام، إنما كانت بلفظ " أهل البيت " ولم تكن بلفظ "أهل" فقط أو "أهل إبراهيم" أو "آل إبراهيم"، وعلى هذا فإن الألف واللام في "أهل البيت" هنا، إنما هي للعهد أيضاً، يعني أهل البيت المخصوصين بإبراهيم عليه السلام. أضف إلى ذلك، إنما جعلت سارة ـ المتوجه إليها الخطاب ـ من أهل بيت إبراهيم عليه السلام، لأنها كانت ابنة عمه أو ابنة خالته، على اختلاف الروايات، فإبراهيم (ع) وسارة إذاً من بيت واحد، فصح إطلاق اللفظة عليها من هذا الوجه، ولا دلالة في الآية الشريفة على أن زوجة الرجل من أهل بيته على الإطلاق. ناهيك على فرض انه لو ثبت أنها أهله، فإنها معارضة للروايات الصحيحة التي خصصت أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله بعلي وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام ، كما سيأتي . إن ضميري التذكير يحافظان على كيان آية التطهير، كما و" إنما" و"أهل البيت"،أنهما من عساكر البراهين ومن السنة المتواترة، تدلنا على تحول الخطاب عنهن إلى رجال أهل البيت، إذاً، فالبيت غير البيت وأهله غير أهله، فليست أية التطهير لتعني نساء النبي صلى الله عليه وآله، لا في أدب اللفظ لمكان " كم ... كم " ولا في أدب المعنى، ولا في القرائن القطعية التي تحافظ على مكانة مخاطبيها، رغم مكانها بين مخاطبات، فكما " يوسف أعرض عن هذا " لا تحول " واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين " يوسف :29 . إلى مخاطبيها، حيث اختلاف الضمائر يحافظ على ما يعنيه المضمر والضامر ذكراناً وإناثاً فـ " كم " هنا لا تتحول إلى غير مخاطبيها، وقرينة السياق ـ على نقد في أصلها ـ ليست لتسوق مقارنتها إلى غير الصريح من معناها . أترى نساء النبي (ص) كن رجالاً لكي يخاطبهن الله بخطاب "كم"، كما يعرفه من لا يعرف أدب اللفظ والمعنى؟ أم نسي الله أو تناسى وسهى؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، أم تحمل القرآن الكريم على اللفظ والمعنى الركيكين ؟ فخاطبهن بعد خطابات النساء بخطاب الرجال ؟ أم عني بهم رجال أهل البيت وفي ضمنهم النساء تغليباً لقبيل الرجال، كما في سائر الأحوال؟. وشمول ضمير الرجال للنساء بحاجة إلى دليل قاطع، والقرائن القطعية في الآية الكريمة تنحيهن، وكل من هو دون العصمة القمة عنها، والسنة القطعية لا تضم إليها إلا الصديقة الكبرى سلام الله تعالى عليها، ولئن سألنا نساء النبي (ص) هل أنتن، " أي جمع" أم واحدة فقط منكن داخلة في هذه الطهارة القمة الخارج عنها من خرج نبياً وسواه، لا نسمع الجواب إلا كلا، ولا سيما أن القرآن الكريم ناطق بالأخطاء الجارفة في بعضهن " وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وميكال صالح المؤمنين "التحريم : 4 . القرينة الثانية: الألف واللام في " أهل البيت " : لا شك أن اللام قد تطلق ويراد منها الجنس المدخول كقوله تعالى { إن الإنسان لفي خسر}العصر : 2 . وقد يطلق ويراد منها استغراق أفراده كقوله سبحانه وتعالى{ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} التوبة : 73 . وثالثة تستعمل في العهد باعتبار معهودية مدخولها بين المتكلم والمخاطب . ولا يمكن حمل اللام في( البيت ) على الجنس أو الاستغراق، لأن الأول إنما يناسب إذا أراد المتكلم بيان الحكم المتعلق بالطبيعة كما يعلم من تمثيلهم لذلك بقوله تعالى { إن الإنسان خلق هلوعاً } المعارج : 19 . ومن المعلوم أن الآية الكريمة ليست بصدد بيان حكم طبيعة أهل البيت، كما لا يصح أن يحمل على العموم، أي: جميع البيوت في العالم، أو بيوت النبي، وإلا لناسب الإتيان بصيغة الجمع فيقول: أهل البيوت، كما أتى به عندما كان في صدد إفادة ذلك، وقال في صدر الآية { وقرن في بيوتكن } . فتعين أن يكون المراد هو الثالث، أي البيت المعهود، فالآية تشير إلى إذهاب الرجس عن أهل بيت خاص، معهود المتكلم والمخاطب، وحينئذ يقع الكلام في تعيين هذا البيت المعهود، فما هو هذا البيت؟ هل بيت أزواجه، أو بيت فاطمة وزوجها والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام ؟ . لا سبيل إلى الأول، لأنه لم يكن لأزواجه بيت واحد حتى تشير اللام إليه، بل تسكن كل واحدة في بيت خاص، ولو أريد واحداً من بيوتهن لاختصت الآية بواحدة منهم، وهذا ما اتفقت الأمة على خلافه . أضف إلى ذلك أنه على هذا يخرج بيت فاطمة، مع أن الروايات ناطقة بشمولها، وإنما الكلام في شمولها لأزواج النبي، كما سيوافيك . هذا كله على تسليم أن المراد من البيت هو البيت المبتنى من الأحجار والآجر والأخشاب، فقد عرفت أن المتعين حمله على بيت خاص معهود، ولا يصح حمله إلا على بيت فاطمة، إذ ليس هناك بيت خاص صالح لحمل الآية عليه . وأما لو قلنا بأن البيت قد يطلق ويراد منه تارة هذا النسق، كما في قوله تعالى { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى }، وأخرى غير هذا النمط من البيت، مثل قول القائل :"بيت النبوة" و" بيت الوحي" تشبيهاً لهما على المحسوس، فلا محيص أن يراد منه المنتمون إلى النبوة والوحي بوشائج معنوية خاصة على وجه يصح مع ملاحظتها، عدّهم اهلاً لذلك البيت، وتلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح والفكر، ولا يشمل كل من يرتبط ببيت النبوة عن طريق السبب أو النسب فحسب، وفي الوقت نفسه يفتقد الأواصر المعنوية الخاصة، ولقد تفطن العلامة الزمخشري صاحب التفسير إلى هذه النكتة، فهو يقول في تفسير قوله تعالى { قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } هود : 73 ." لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أنه تتوقر ولا يزدريها ما يزدري سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولها { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة، ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة " الكشاف : 2/107 . وعلى ذلك لا يصح تفسير الآية بكل المنتسبين عن طريق الأواصر الجسمانية لبيت خاص حتى بيت فاطمة، إلا أن تكون هناك الوشائج المشار إليها، ولقد ضل من ضل في تفسير الآية بغير تلك الجماعة عليها السلام، فحملَ البيت في الآية على البيت المبني من حجر ومدر مع أن المراد غيره . وأهل البيت في إطلاقها تشمل كل أهلٍ من كل بيت، بيت السكن للبدن، حيث الإنسان يستريح فيه ببدنه من الأعباء، فأهله هم الأهلون لتهيئة الراحة البدنية من أزواج وخدم واضرابهم . أم بيت، يبيت فيه الروح، جو روحاني يبتغيه الروح لراحة الاستضاءة من أضواء المعرفة، وأهله الأهلون لتلك الاستضاءة. هذا جو روحاني وبيت يحلق على أهله، وذاك جو جسداني وبيت يحلق على أهله، وأين بيت من بيت ؟ وهما قد يجتمعان كبيت علي وفاطمة وولدهما، وللرسول الأقدس صلى الله عليه وآله. وقد يفترقان كحجرات الرسول بنسائه، أو كمن يعيشون عيشة الحيوان، ليس لهم جو روحاني، وإن كانوا يعيشون عيشة الإنسان، كما هو الغالب في كثير من البشر غير المسلمين، ولمكان " إنما " هنا ليس من أهل البيت نساء النبي (ص) بالمعنى الخاص، إذ لا يشملهن لأنهن أهل بيت سكن من حجر ومدر أعني بيوت وليس بيت واحد كما هو نص الآية الشريفة، والمسند إليه هو الرسول الأقدس محمد صلى الله عليه وآله، وهو بيت علي وفاطمة صلوات الله عليهم . أترى بعد، إنهم أهل بيت الرسول (ص) وهو لا يشمله (ص)، وهو أسه وأساسه؟!ّ، و " إنما " الحاصرة تجعله المصداق الأجلى في هذه الأهلية المباركة، وما سائر أهل البيت إلا كمصاديق ثانوية، نظراً لتواتر الروايات أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين، وهذا يناسب حصر الطهارة فيهم . إذاً، تصير لفظة "أهل البيت" في عرف القرآن الكريم، إسماً خاصاً لهؤلاء الخمسة، وهم النبي صلى الله عليه وآله، وعلي وفاطمة والحسنان عليهم السلام، لا يطلق على غيرهم، ولو كان من أقربائه الأقربين، وإن صح بحسب العرف العام إطلاقه عليهم، كما سيأتي في البحث الروائي أن الروايات الصحيحة قد حددت أهل البيت بهؤلاء الخمسة. القرينة الثالثة: أن الإرادة تكوينية لا تشريعية : قوله تعالى " يريد"، ليس تخلو إرادة الله تعالى لإذهاب الرجس عن أهل البيت من أن يكون هو ما أراد منهم من فعل الطاعات واجتناب المعاصي، أو يكون عبارة عن أنه أذهب الرجس عنهم بأن فعل لهم لطفاً اختاروا عنده الامتناع من القبائح . والأول لا يجوز أن يكون مراداً، لأن هذه الإرداة حاصلة لجميع المكلفين، فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيرهم، فكيف يحمل ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيها فضيلة ومزية على غيرهم . وبمعنى آخر، لا اختصاص لأهل البيت بالإرادة المحضة، إذ يشارك فيها كل مكلف من سائر الخلق، ولأن هذا القول يقضي المدح والتعظيم لهم بغير شك وشبهة، ولا مدح في الإرادة المجردة، فيثبت الوجه الثاني، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيين بالآية من جميع القبائح، وقد علمنا أن من عدا، من ذكرناه من أهل البيت غير مقطوع على عصمته، فثبت أن الآية مختصة بهم لبطلان تعلقها بغيرهم . وإرادة الله تعالى في الآية الشريفة، مؤكدة بالحصر واللام، فلا بد من وقوعه، ولام الرجس ليست عهدية، إذ لا معهود، فهي جنسية، فينتفي جميع أفرادها. إذ أن نفي الماهية نفي لكل أفرادها وهو معنى العصمة، ولا واحدة من الأزواج معصومة إجماعاً،وذلك يثبت حجية قول كل واحد منهم (ع) فضلاً عن إجماعهم (ع) . فالإرادة التكوينية التي لا ينفك فيها المراد عن الإرادة، وتكون متحققة وثابتة في الخارج، وبما أن إذهاب الرجس وإثبات التطهير وتجهيزهم بالأسباب والمعدات المنتهية إلى العصمة، فلا يصح أن يراد من أهل البيت أزواج النبي صلى الله عليه وآله، إذ لم يدع أحد من المسلمين كونهن معصومات من الذنب ومطهرات من الزلل، فلا مناص عن تطبيقه على جماعة خاصة من المنتمين إلى البيت النبوي الذي تحقق فيهم تعلقهم بالأسباب والمقتضيات التي تنتهي بصاحبها إلى العصمة ولا ينطبق هذا إلاّ على الإمام علي وزوجته والحسنين عليهم السلام، لأن غيرهم مجمع على عدم اتصافهم بهذه الأسباب . وعلى أي حال، فالمراد بإذهاب الرجس والتطهير مجرد التقوى بالاجتناب عن النواهي وامتثال الأوامر، فيكون المعنى: أن الله لا ينتفع بتوجيه هذه التكاليف إليكم، وإنما يريد إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم، على حد قوله " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ويتم نعمته عليكم " وهذا المعنى لا يلائم شيئاً من معاني أهل البيت السابقة، لمنافاته البينة، للاختصاص المفهوم من أهل البيت لعمومه لعامة المسلمين المكلفين بأحكام الدين . وإن كان المراد بذهاب الرجس والتطهير التقوى الشديد البالغ، ويكون المعنى أن هذا التشديد في التكاليف المتوجهة إليكن أزواج النبي وتضعيف الثواب والعقاب، ليس لينتفع الله سبحانه به، بل ليذهب عنكم الرجس ويطهركم، ويكون من تعميم الخطاب لهن ولغيرهن بعد تخصيصه بهن، فهذا المعنى لا يلائم كون الخطاب خاصاً بغيرهن، وهو ظاهر ولا عموم الخطاب لهن ولغيرهن، فإن الغير لا يشاركهن في تشديد التكلف وتضعيف الثواب والعقاب . لا يقال : لم لا يجوز أن يكون الخطاب على هذا التقدير متوجهاً إليهن مع النبي (ص) وتكليفه شديد لتكليفهن؟ لأنه يقال: أنه (ص) مؤيد بعصمة من الله، وهي موهبة أهلية غير مكتسبة بالعمل، فلا معنى لجعل تشديد التكليف وتضعيف الجزاء بالنسبة إليه مقدمة أو سبباً لحصول التقوى الشديد له امتناناً عليه على ما يعطيه سياق الآية، ولذلك لم يصرح بكون الخطاب متوجهاً إليهن مع النبي (ص) فقط أحد من المفسرين، وإنما احتملناه لتصحيح قول من قال: أن الآية خاصة بأزواج النبي (ص) . وإن كان المراد إذهاب الرجس والتطهير بإرادته تعالى ذلك مطلقاً لا بتوجيه مطلق التكليف ولا بتوجيه التكليف الشديد، بل إرادته مطلقة لإذهاب الرجس والتطهير لأهل البيت خاصة بما هم أهل البيت، كان هذا المعنى منافياً لتقييد كرامتهن بالتقوى، سواء كان المراد بالإرادة التشريعية أو التكوينية . وبهذا الذي تقدم، يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن الآية في النبي صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسنين عليهم السلام خاصة، لا يشاركهم فيها غيرهم . وهي روايات جمة تزيد على سبعين حديثاً، يربو ما ورد منه من طريق أهل السنة على ما ورد منها من طرق الشيعة أعزهم الله تعالى وأيدهم بنصره، فقد روتها السنة بطرق كثيرة عن أم سلمة وعائشة وأبي سعيد الخدري وسعد بن واثلة بن الأسقع وأبي الحمراء، وابن عباس وثوبان مولى النبي (ص) وعبد الله بن جعفر وعلي والحسن بن علي (ع) في قريب من أربعين طريقاً، وروتها الشيعة عن علي والسجاد والباقر والصادق والرضا (ع) وأم سلمة وأبي ذر وأبي ليلى وأبي الأسود الدؤلي وعمرو بن ميمون الأودي وسعد بن أبي وقاص في بضع وثلاثين طريقاً . فإن قيل أن الروايات إنما تدل على شمول الآية لعلي وفاطمة والحسنين (ع)، ولا ينافي ذلك شمولها لأزواج النبي صلى الله عليه وآله، كما تفيد وقوع الآية في سياق خطابهن؟ . قلنا: إن كثيراً من هذه الروايات وخاصة ما رويت عن أم سلمة (رض)ـ وفي بيتها نزلت الآيةـ تصرح باختصاصها بهم وعدم شمولها لأزواج النبي (ص)، وستجيء الروايات وفيها الصحاح، في بحث مستقل، فارتقب . ومما يستحق الالتفات إليه أن بعض المفسرين يصرون على أن للآية معنى عاماً تدخل فيه أزواج النبي (ص) ، بالرغم من أن أكثر علماء السنة - كما ستعرف ذلك لاحقاً - قد حددوها بهؤلاء الخمسة . إضافة إلى أن عائشة- زوجة النبي (ص)- لم تكن تدعِ شيئاً في ذكر فضائلها ودقائق علاقتها بالنبي (ص) بشهادة الروايات الآتية، فإذا كانت هذه الآية تشملها فلا بد أنها ستتحدث بها في المناسبات المختلفة، في حين لم يروَ شيئ من ذلك عنها مطلقاًُ . وقد روى صاحب (شواهد التنزيل) وهو من علماء السنة المشهورين، أكثر من (130) حديثاً في هذا الموضوع، وبغض النظر عن كل ذلك، فإن بعض أزواج النبي (ص) قد قمن بأعمال طوال حياتهن تخالف مقام العصمة، ولا تناسب كونهن معصومات كحادثة حرب الجمل التي كانت خروجاً على إمام الزمان، والتي تسببت في إراقة دماء كثيرة والتي بلغت سبعة عشر ألف قتيل كما عند بعض المؤرخين، ولا شك أن هذه المعركة لا يمكن توجيهها، بل إننا نرى أن عائشة نفسها قد أظهرت الندم بعدها، وإن انتقاص عائشة من خديجة عليها السلام، والتي هي من أعظم نساء المسلمين، وأكثرهن تضحية وإيثاراً، وأجلهن فضيلة وقدراً- مشهور في تاريخ الإسلام- . وقد آلم هذا الكلام رسول الله صلى الله عليه وآله حتى انتصب شعر رأسه من شدة غضبه- كما تصرح به الروايات المتعددة- وقال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبنني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس". وسوف نتحدث عن الإرادة وأقسامها في القرآن الكريم، في بحثنا عن العصمة، إن شاء الله تعالى . وأما عن سياق الآية فسوف نتحدث عنه لاحقاً أيضاً، إن شاء الله تعالى . القرينة الرابعة: أن الآيات المربوطة بأزواج النبي صلى الله عليه وآله، تبتدئ من الآية 28 وتنتهي بالآية 34، وهي تخاطبهن تارة بلفظ " الأزواج" ومرتين بلفظ " نساء النبي" الصريحين في زوجاته، فما هو الوجه في العدول عنهما إلى لفظ " أهل البيت؟، فإن العدول قرينة على أن المخاطب به غير المخاطب بهما . وأخيراً أود أن أشير إلى نكتة، وهي أن آية التطهير، لحنها لحن الثناء والتمجيد على أهل البيت (ع)، في حين أن لحن الآيات الواردة في نساء النبي صلى الله عليه وآله، النصح والوعظ تارة، والتنديد والتوبيخ والتهديد أخرى . أما الأول فكما في الآيات الواردة في سورة الأحزاب . يقول سبحانه: { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً } الأحزاب : 28 . { يا نساء النبي من يأتِ منكن بفاحشة مبينة يُضاعف لها العذابُ ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً } الأحزاب : 30 . { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً} الأحزاب : 32 . { وفرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله}الأحزاب: 33 . وأما الثاني أي التهديد والتنديد والتوبيخ ففي الآيات الواردة في سورة التحريم . { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } التحريم : 1 . فلو كان مرضاة أزواج النبي، فيه رضىً لله، لما نهى الله تعالى عنه، وعاتب عليه . { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } التحريم : 4 . { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً } التحريم : 5 . فأمهات المؤمنين كسائر الصحابيات، لهن من الفضل ما لغيرهن، وإن كان لهن الاحترام الخاص، ولكن آية التطهير بلغت من الثناء على أهل البيت بمكان تأبى من الانطباق عليهن بما عرفت لهن من السمات في الآيات، وستوافيك دلالة الآية على عصمة أهل البيت وتنزيههم من الزلل والخطأ . [ الصفحة السابقة ] [ البداية ] |