المبحث التاسع:  شبهات حول آية التطهير، وردودها

       قد تعرفت على مفاد الآية الشريفة: واتضح لديك أن القرائن الداخلية في نفس الآية، تدل بوضوح على أن الإرادة الواردة في الآية تكوينية، تعلقت بطهارة أهل البيت وإذهاب الرجس عنهم، ويكون وزان الإرادة فيها وزان الإرادة الواردة، في آيات أخرى كـ:" ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض…."، و " ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين"، و" ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً……." .

       وعند ذلك تطرح في المقام أسئلة لابد من الإجابة عليها، وهي التالية:

       السؤال الأول: هل الإرادة التشريعية تتعلق بفعل الغير ؟

       هل يصح تعريف الإرادة التشريعية بالإرادة المتعلقة بفعل الغير، كتكليفه سبحانه، عباده بالصلاة والزكاة، وتكليف الآمر البشري غيره بالسقي والرعي؟ وإذا كانت الإرادة التشريعية عبارة عما ذُكر، فتكون الإرادة التكوينية عبارة عن تعلقها بفعل نفس المريد، كتعلق إرادته سبحانه بخلق السماوات والأرض، وإرادة غيره بالأكل والشرب ؟

       الجواب: إن تعريف الإرادة التكوينية بما ذكر وإن كان صحيحاً، لكن تعريف التشريعية منها بتعلقها بفعل الغير غير صحيح قطعاً، وذلك لأن الإرادة لا تتعلق إلا بأمر اختياري وهو فعل المريد، وأما فعل الشخص الآخر، فهو بما أنه خارج عن اختيار المريد، لا تتعلق به إرادته، وكيف يصح لشخص أن يريد صدور فعل من الغير مع أن صدوره منه تابع لإرادة ذلك الغير، وليس تابعاً لإرادة المريد الآخر؟

       وإن شئت قلت: إن زمام فعل الفاعل المختار بيد الفاعل المباشر، فلو أراده لقام به، ولو لم يرده لم يقم به، وليس زمامه بيد الآمر حتى يريد منه جداً، ولا تصّيره إرادة الآمر مسلوب الاختيار، ولا تجعله مضطراً مقهوراً مسخراً في مقابل إرادة الآمر، لأن المفروض أن الفاعل بعد، فاعل مختار، ومَن هذا شأنه لا تتعلق بفعله إرادة الغير الجدية، لأن معنى تعلقها بفعل الغير أنه اختيار المريد وتناوله، ويوجد بإرادته، وينتفي بانتفائه، مع أنه ليس كذلك وإنما يوجد بإرادة الفاعل المباشر، وينتفي باتنفاء إرادته، ولا ملازمة بين إرادة المأمور،ولأجل ذلك كثيراً ما يعصى ويخالف .

       وفي الجملة: ليست ماهية الإرادة التشريعية أمراً يخالف ماهية الإرادة التكوينية، بل الكل من وادٍ واحد، تختلفان في الاسم، وتتحدان في الماهية، والجميع يتعلق بفعل نفس المريد، غير أن المراد فيهما مختلف حسب الاعتبار، وهو في التكوينية، عبارة عن الفعل الخارجي الصادر عنه مباشرة، كالتكوين والتصنيع، سواء كان المريد هو الله سبحانه أم أحد عباده القادرين على الأفعال الخارجية باقداره، ولكنه في التشريعية عبارة عن نفس الطلب والإنشاء بالإيماء والإشارة والفظ والكتابة، وهو أيضاً فعل المريد الواقع في اختياره، وأما قيام الغير بالمطلوب فهو من غايات إرادة المريد ومقاصده وأغراضه، وهي تترتب تارة، وتنفك أخرى، فلو تكونت في نفسه مبادئ الخوف والرجال لقام به، وإلا فلا يقوم به ولا تتحقق الغية، لكن تتم عليه الحجة .

       وعلى ذلك فما اشتهر على الألسن من أن الإرادة التشريعية عبارة عن تعلق إرادة الآمر بفعل الغير، تسامح في التعبير، ومن باب إقامة الغاية مكان ذيها .

       والذي يوضح ذلك: أن إرادته سبحانه لا تنفك عن مراده، ومن المستحيل أن يخاطب شيئاً بـ" كن" ولا يتحقق، ولسعة قدرته وعموميتها، قال سبحانه: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون }يس : 82 .، فلو تعلقت إرادته بفعل العباد كالصلاة والصوم، لما انفك عنهم، ولو تعلقت على إيمانهم وهدايتهم لما وجد على أديم الأرض عاص ومتمرد، قال سبحانه: { ول شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين } الأنعام : 35 ، وتكون نتيجة ذلك كونهم مجبورين في قبول الهداية، ومضطرين إلى الطاعة، فلا يقام لمثلها وزن ولا قيمة، وهذا يعرب بوضوح عن أن متعلق  إرادته في مجال التشريع هو فعل نفس المشرّع وهو التشريع، وهو بعد غير منفك عن إرادته، موجود معها .

       السؤال الثاني: هل الإرادة التكوينية توجب سلب الاختيار؟

       لو كانت الإرادة في المقام، إرادة تكوينية، فبما أن إرادته سبحانه لا تتخلف عن المراد، فلازمها هنا كون طهارتهم وابتعادهم عن الرجس أمراً جبرياً لا يتخلف، وهذا مما لا يعد فضيلة وثناءً لأهل البيت، مع أن الآية بصدد الثناء عليهم ؟

       وقد أجاب عنه المحققون على وجه الإجمال وقالوا: إن القدرة والتمكن من فعل المعصية ثابت للمعصوم، والعصمة مانع شرعي، ولا منافاة بين عدم القدرة الشرعية والقدرة الذاتية، وهذا بإجماله كاف لأهل التحقيق، ولكن يحتاج إلى إيضاح، فنقول:

       إن مشكلة الجبر تنحل بالتعرف على كيفية تعلق إرادته سبحانه بأفعال العباد، والإمعان في هذا الموضوع يكفي لحل يعض المشاكل المطروحة في مسألة الجبر والاختيار .

       وبعبارة أخرى: هل تعلقت إرادته سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم باختيارهم وإرادتهم، أم تعلقت بصدورها منهم مطلقاً، وإن لم تكن مسبوقة باختيارهم وإرادتهم؟ فالجبر لازم القول الثاني، والاختيار نتيجة القول الأول، والحق هو القول الأول، فنقول في توضيحه:

       إن لازم التوحيد في الفاعيلة والخالقية- كما هو منصوص الآيات ومقتضى البراهين- هو إن كل ما يقع في صفحة الوجود سواء كان فعلاً للعباد، أم لغيرهم، لا يخرج عن إطار الإرادة التكوينية لله سبحانه، ولا يقع شيئ في الكون إلا بإرادته وإذنه سبحانه، قال تعالى:{ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} الحشر : 5 ، وهذه الآية وغيرها تدل بصراحة على أن أفعال العباد حلالها وحرامها غير خارجة عن إطار الإرادة التكوينية لله، وإلا لزم أن يكون الإنسان أو الفواعل الأُخر، مستقلة في الفعل والتأثير، وهو يستلزم الاستقلال في الذات، وهو عين الشرك ونفي التوحيد في الأفعال والخالقية

ومه ذلك فليس العباد مجبورين في أفعالهم وتصرفاتهم، لأن إرادته سبحانه وإن تعلقت بأفعالهم، لكن إرادته سبحانه متعلقة بأفعالهم بتوسط إرادتهم الخاصة وفي طول مشيئتهم، وبذلك صح أن يقال لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين .

       وعلى ذلك فالله سبحانه وإن أراد طهارتهم عن الذنوب بالإرادة التكوينية، ولكن تلك الإرادة تعلقت بها، لما علم سبحانه انهم بما زودوا م إمكانات ذاتية ومواهب مكتسبة نتيجة تربيتهم وفق مبادئ الإسلام، لا يريدون إلا ما شرّع لهم سبحانه من أحكام، فهم لا يشاءون إلا ما يشاء الله، وعند ذلك صح له أن يخبر بأنه أراد تكويناً إذهاب الرجس عنهم، لأنهم عليهم السلام ما داموا لا يريدون لأنفسهم إلا الجري على وفق الشرع لا يفاض عليهم إلا هذا النوع من الوصف .

       وحصيلة لكلام: أن  مبنى الإشكال هو الغفلة عن كيفية تعلق إرادته سبحانه بأفعال العباد حيث توهم المستشكل:

       أولاً: أن أفعال العباد خارجة عن إطار الإرادة التكوينية لله سبحانه، وغفل عن أن هذا النوع من الاعتقاد يساوق الشرك ويصادم التوحيد .

       وثانياً: أن سبق الإرادة التكوينية على أفعال العباد يستلزم سلب الاختيار عنهم، وغفل عن أن إرادته سبحانه إنما تتعلق بتوسط 'رادة العباد واختيارهم، فهم إذا أرادوا لأنفسهم شيئاً، فالله سبحانه يرد ذلك الشيء لهم تكويناً، وليس في ذلك أية رائحة للجبر، بل هو الأمر بين الأمرين .

       وعندئذ يكون المراد من تطهيرهم - بعد تجهيزهم بادراك الحق في الاعتقاد والعمل، وإعطائهم البصيرة الكاملة لمعرفة الحق في مجال الاعتقاد والعمل - تعلق إرادته التكوينية بطهارتهم من الذنوب، لأجل تعلق إرادتهم بذلك، فقد تعلقت إرادته سبحانه بتنزيههم عن طريق إرادتهم واختيارهم، وأين هذا من الجبر ؟.

       تفسير آخر للإرادة بالتكوينية

       ما ذكرناه في كيفية تعلق إرادته سبحانه بأفعال العباد، جواب عام سار في جميع الموارد ورافع للإشكال في مجال الجبر، وأن من أعضل الموارد في الجبر والاختيار، هي تحليل كيفية تعلق إرادته بأفعال العباد وأنه: هل يوجب الجبر ويسلب الاختيار، باعتبار أن إرادته لا تنفك عن المراد أم لا؟ لأن إرادته تعلقت بصدور أفعالهم عن أنفسهم عن مبادئهم المكونة فيهم وهي إرادتهم واختيارهم، فلو صدرت عنهم بلا هذه الخصوصية لزم انفكاك إرادته عن مراده .

       ولم استشكل هذا المطلب على بعضهم انصرفوا إلى إخراج لأفعال العباد عن إطار إرادته سبحانه، وإنما تتعلق بالكائنات دون أفعالهم، وهو كما ترى، لأنه يستلزم تحقق شيئ في صحيفة الوجود بغير إذنه وإرادته، مع أن مقتضى التوحيد في الخالقية انتهاء كل ما في عالم الإمكان إلى وجوده وخالقيته، وبالتالي إلى إرادته، فإخارج أفعال العباد عن مجال إرادة الله، يخالف الأسس التوحيدية التي جاء بها القرآن ودعمها العقل .

       إلا أن في أفعال العصمة وكيفية تعلق إرادته تعالى بعصمة المعصوم تحليلاً آخر بهذا المقام ولا يتعداه .

       وحاصل هذا التحليل يتوقف على معرفة كيفية العصمة وحقيقتها، فنقول:

       إن حقيقة العصمة ترجع إلى الدرجة العليا من التقوى، بمعنى أن التقوى إذا بلغت قمتها تعصم الإنسان عن اقتراف الذنب وجميع القبائح .

       وإن شئت قلت: العصمة نتيجة العلم القطعي الثابت والعرفان بعواقب المعصية علماً يصد الإنسان عن اجتراح المعاصي واقتراف المآثم، كالإنسان الواقف أمام الأسلاك التي يجري فيها التيار الكهربائي، فإنه لا يقدم نفسه على إمساكها .

       وبعابرة ثالثة: العصمة: الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجلاله، استشعاراً منقطع النظير، حيث يحدث في المستشعر التفاني في الحق والعشق لجماله وكماله، بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً .

       فإذا كانت حقيقة العصمة نفس هذه الحقائق أو قريباً منها، فليس اتصاف الإنسان بهذه الحقائق موجباً للجبر وسالباً للاختيار، بل المعصوم مع هذه المواهب الإلهية قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا، غير أنه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى، والعام القطعي بآثار المعاصي والاستشعار المنقطع النظير بعظمة الخالق، يختار الطاعة وترك المعصية مع القدرة على خلاف ذلك، فحاله كالوالد العطوف، لا يقدم على قتل ولده ولو أعطيت له الكنوز الكثيرة .

       إن هذه الحقائق الموهوبة للمعصوم أشبه بحبل يلقى إلى الغارق في البحر والساقط في البئر حتى يتمسك به وينجي نفسه، فلا شك أن العاقل يتمسك به دائماً وينجي نفسه، ولكن هذا العمل لا يخالف قدرته على ترك التمسك به وإلقاء نفسه في مهاوي الهلكة .

       فهذه الحقائق النفسانية الموهوبة ليست إلا أسباباً لترك العصيان ومقتضيات للطاعات، ومعدات لقرب العبد من ربه، ومع ذلك تتوسط بينها وبين فعل العبد من طاعة أو عصيان، وإرادته واختياره، فليست هذه المواهب عللاً تامة لتوجه العبد إلى جانب واحد، وانحيازه عن جانب آخر، بل هي أسباب مقربة ومعدات للإرادة، ومع ذلك كله فاختيار المعصوم وإرادته باقيان على حالهما .

       فمعنى تعلق إرادته سبحانه بعصمتهم ليس تعلقها بالطاعة وترك العصيان، بل معناه تعلق إرادته التكوينية بإفاضة هذه المواهب عليهم وجعلها في مكامن نفوسهم وتحليتهم بهذه الحلية الإلهية، ولكن هذا الجهل والتحلية لا يهدف إلى كونهم مكتوفي الأيدي أمام التكاليف، ومسوقين إلى جانب واحد، فالاشتباه في المقام حصل في تعين ما هو المفاض من الله سبحانه على هذه الشخصيات، فتحيل:" إن المفاض هو العصمة المفسرة بترك المعصية ونفس الطاعة" غفلة عن أن المفاض هو هذه الكيفيات والصفات العليا النفسانية عليهم، وهي توجد استعداداً في النفس بترك العصيان واختيار الطاعة مع القدرة على الخلاف .

       نعم، لو كان هناك جبر، فالجبر في تحليتهم بهذه المواهب والعطايا الإلهية، ولكنهم معها مختارون في التوجه، لأي طرف أراده وإن كانوا لا يشاءون أي الطاعة وترك المعصية .

       ما هو الوجه لتفسير الإرادة بالتشريعية ؟

       ثم إن الجمهور لمّا ذهبوا إلى كون الإرادة تشريعية، احتالوا في توجيهها، يقول المفسر سيد قطب في هذا الصدد: إنه سبحانه يجعل تلك الأوامر - الأوامر الواقعة قبل الآية من قوله:{ وقرن..... ولا تبرجن} - وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت، فالتطهير وإذهاب الرجس ينم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ويحققونها في واقع الحياة العملي.... ويختم هذه التوجيهات لنساء النبي بمثل ما بدأها، بتذكيرهن بعلو مكانتهن وامتيازهن على النساء بمكانتهن من رسول الله وبما أنعم الله عليهن، فجعل بيوتهن مهبط القرآن ومنزل الحكمة وتشرف النور والهدى والإيمان، وأنه لحظ عظيم يكفي التذكر به لتحس النفس جلالة قدره ولطيف صنع الله فيه جزالة النعمة التي لا يعد لها نعيم .

       وحاصل ما ذكره مبني على نزول القرآن في مورد نساء النبي، وأنه سبحانه علل خطاباته لهن بأنه يريد من هذا التكاليف إذهاب الرجس عنهن، ويكون المعنى أن التشديد في التكاليف وتضعيف الثواب والعقاب ليس لانتفاع الله سبحانه به، بل لإذهاب الرجس عنكن وتطهيركن .

       ولا يخفى أن ما ورد في الآيات من الأحكام ليست أحكاماً خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله، فهذا قوله سبحانه قبل آية التطهير { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله} الأحزاب : 33 .

       وهذا قوله سبحانه بعد الآية { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ...} الآية، كلها أحكام عانة لنساء المسلمين، فالله سبحانه بهذه التكاليف يريد أن يطهركن وإذهاب الرجس عن عموم النساء، لا زوجات النبي خاصة، وعندئذ لا وجه لتخصيصهن بالخطاب بالعناية التي عُرفت .

       وإنما ذهب بعض الجمهور على ما ذهب، لأجل أنهم تصوروا نزول الآية في حق نساء النبي (ص)، فاحتالوا لتفسير الإرادة بما ذكره سيد قطب ونظراؤه، وإنما ذهبوا إلى ذلك بزعمهم اتصال الآية بما قبلها من الآيات، مع انه قد  وافاك أن الآية - آية التطهير- آية مستقلة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها، وإنما وضعت في هذا الموضع لمصلحة خاصة، أشرنا إليها، والأحاديث بكثرتها البالغة ناصة على نزول الآية وحدها، ولم يرد نزولها في ضمن آيات نساء النبي صلى الله عليه وآله، ولا ذكره أحد، حتى أن القائل باختصاص الآية بأزواج النبي (ص) ينسب القول إلى عكرمة وعروة، لا إلى الرواية، كما عرفت .

       فالآية لم تكن بحسب النزول من آيات النساء، ولا متصلة بها، وقد وافتك الروايات الكثيرة في هذا المضمار .

       السؤال الثالث: هل العصمة الموهوبة مفخرة ؟

       وهذا سؤال ثالث يتردد في المقام وفي غيره، وقد طرحناه عند البحث عن العصمة على وجه الإطلاق ونطرحه هنا بشكل آخر، وهو أن عصمة أهل البيت لو كانت أمراً موهوباً من الله سبحانه، كيف يمكن أن تعد مفخرة لأهله ؟

       والإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الوقوف على معنى العصمة الموهوبة لهم من الله سبحانه، وقد عرفت أن المراد من هبتها لهم هو إعطاء المقتضيات والمعدات لهم التي لا تسلب الاختيار عنهم وهم بعد قادرون على الطاعة والعصيان والنقض والإبرام، والسائل تخبل أن العصمة الموهوبة هي نفس ترك العصيان والمخالفة، فزعم أن شيئاً مثلها لا يعد فخراً ولا يوجب ثناءً، وقد أوضحنا في السؤال السابق، فراجع .

       السؤال الرابع: هل الآية تدل على فعلية التطهير ؟

       وربما يقال: إن أقصى ما تدل عليه الآية هو إخباره سبحانه هن أنه يريد إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم، وليس في الآية ما يدل على تحقق هذه الإرادة بالفعل، وإنها صدرت منه سبحانه، مع أن القائلين بعصمة أهل البيت يذهبون بدلالتها على اتصافهم بالعصمة، وفي هذا الصدد ينقل عن الشيخ زين الدين البياضي العاملي إشكالاً عن المخالف ويقول: { يريد } لفظ المستقبل، فلا دليل على وقوعه.

       ولا يخفى أن هذا الإشكال نشأ من اتخاذ موقف خاص بالنسبة إلى أهل البيت، بشهادة أن هذه اللفظة وردت في كثير من الآيات، مع أنه ما خطر ببال أحد مثل هذا الإشكال، قال سبحانه: {يريد الله ليبين لكم}النساء : 26 ، وقال {والله يريد أن يتوب عليكم}النساء : 27، وقال: { يريد الله أن يخفف عنكم}النساء : 28 ، وقال:{ويهديكم سنن الذين من قبلكم}النساء :26، أضف إلى ذلك أن هناك قرينة واضحة على تحقق الإرادة بشهادة الآية في مقام المدح والثناء .

       وأما الإتيان بصيغة المستقبل والعدول عن الماضي، فهو لأجل ظهور فعل المستقبل في الدوام، وهو سبحانه يريد إفادة هذه الإرادة واستمرارها مدى الأيام والسنين .

       السؤال الخامس: هل الإذهاب يستلزم الثبوت ؟

       خلاصة هذا السؤال ترجع على أن الإذهاب يتعلق بشيء موجود، فعلى ذلك يستلزم أن يكون هناك رجس موجود أذهبه الله وطهرهم منه، وهذا يضاد مقالة أهل العصمة، ولكن السائل أو المعترض غفل عن أن هذه التراكيب كما تستعمل في إذهاب الشيء الموجود، كذلك تستعمل فيما إذا لم يكن موجوداً، ولكن كانت هناك مقتضيات ومعدات له حسب الطبيعة الإنسانية وإن لم يكون موجوداً بالفعل، كقول الإنسان لغيره: أذهب الله عنك كل مرض، ولم يكن حاصلاً له، ولكن كانت بعض المعدات للمرض موجودة . وبمعنى آخر أن الآية من قبيل الدفع أو المنع، لا من قبيل الرفع .

       وفي المقام نزيد توضيحاً: إن الإنسان حسب الطبيعة الأولية مجهز بالغرائز والميول العادية المتجاوزة عن الحدود، ولم يشذ أهل البيت عنها ولم تكن لهم في العالم الجسماني خلقة خاصة بهم، فكانت هناك أرضية صالحة للتعدي والطغيان، فلما جُهزوا بهذه الغرائز أولاً، ثم بالعصمة - بالمعنى الذي عرفت - ثانياً، صح أن يقال: إنه سبحانه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً من العصيان

[ الصفحة السابقة ] [ البداية ]