المبحث الثامن: بعض محققو الشيعة الإمامية وآية التطهير تكلم علماء الشيعة أعزهم الله تعالى، حول آية التطهير بما يكفي، وألفوا حولها الكتب، أضف على ذلك أن هذه الوريقات إنما هي تجميع واقتباس لما تفوهوا به أولئك العظام، ولكن سوف نقتصر على عَلَمَين منهم : قال الشيخ المجلسي أعلى الله مقامه، صاحب موسوعة بحار الأنوار المكونة من 110مجلدات : المراد بالإرادة: أما الإرادة المستتبعة للفعل أعني إذهاب الرجس، حتى يكون الكلام في قوة أن يقال: إنما أذهب الله عنكم الرجس، أو الإرادة المحضة التي لا يتبعها الفعل حتى يكون المعنى: أمركم الله باجتناب المعاصي يا أهل البيت، فعلى الأول ثبت المدعى، وأما الثاني فباطل من وجوه: الأول: إن كلمة "إنما" تدل على التخصيص كما قرر في محله، والإرادة المذكورة تعم سائر المكلفين، حتى الكفار، لاشتراك الجميع في التكليف، وقد قال سبحانه:" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، فلا وجه للتخصيص بأهل البيت عليهم السلام . الثاني: أن المقام يقتضي المدح والتشريف لمن نزلت الآية فيه، حيث جللهم بالكساء ولم يدخل فيه غيرهم، وخصصهم بدعائه فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي، على ما سبق في الأخبار، وكذا التأكيد في الآية حيث أعاد التطهير بعد بيان إذهاب الرجس، والمصدر بعده منونا بتنوين التعظيم . الثالث: أن الآية على ما مر في بعض الروايات إنما نزلت بعد دعوة النبي (ص) لهم وأن يعطيه ما وعده فيهم، وقد سئل أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً لا أن يريد ذلك منهم ويكلفهم بطاعته، فلو كان المراد هذا النوع من الإرادة لكان نزول الآية في الحقيقة رداً لدعوته (ص) لا إجابة لها، وبطلانه ظاهر . وأما الالتفات في الآية فقد وقع في سورة الأحزاب بعينها ما يشبه هذا فإن الله تعالى بعدما خاطب أزواج النبي (ص) بآيات مصدرة بقوله:" يا نساء النبي ن كنتن تردن الحياة الدنيا" الآية، عدل إلى الخطاب للمؤمنين بما لا تعلق له بأزواج النبي (ص) بآيات كثيرة ثم عاد إلى الأمر بالخطاب لهن وغيرهن بقوله تعالى:" يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ...." الأحزاب : 59 . قال السيد شرف الدين قدس الله نفسه: لا ريب في أن أهل البيت الذين أهب الله عنهم الرجس وطهرهم في هذه الآية، إنما هم الخمسة "أصحاب الكساء"، وكفاك هذا برهاناً على أنهم أفضل من أقلته الأرض يومئذ، ومن أظلته السماء، ألا وهم رسول الله صلى الله عليه وآله، وصنوه الجاري بنص الذكر مجرى نفسه، وبضعته التي يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها، وريحانتاه من الدنيا سبطاه الشهيدان سيدا شباب أهل الجنة، فهؤلاء هم أصحاب هذه الآية البينة، بحكم لأدلة القاطعة والحجج الساطعة، لم يشاركهم فيها أحد من بني آدم، ولا زاحمهم تحت كسائها واحد من هذا العالم - إلى أن قال- وقد أجمعت كلمة أهل القبلة من أهل المذاهب الإسلامية كلها على أنه صلى الله عليه وآله لما نزل الوحي بها ضم سبطيه وأباهما وأمهما إليه، ثم غشاهم ونفسه بذلك الكساء، تمييزاً لهم عن سائر الأبناء والأنفس والنسا، فلما انفردوا تحته عن كافة أسرته واحتجبوا به عن بقية أمته بلغهم الآية، وهم على تلك الحال حرصاً على أن لا يطمع بمشاركتهم فيها أحد من الصحابة ولآل. فقال مخاطباً لهم، وهم معه في معزل عن كافة الناس:" إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً"، فأزاح (ص) بحجبهم في كسائه حينئذ، حجب الريب وهتك سدف الشبهات، فبرح الخفاء بحكمته البالغة، وسطعت أشعة الظهور ببلاغه المبين، والحمد لله رب العالمين، ومع ذلك لم يقتصر (ص) على هذا المقدار من توضيح اختصاص الآية بهم عليهم السلام، حتى أخرج يده من تحت الكساء فألوى بها إلى السماء فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، يكرر ذلك وأم سلمة تسمع وترى غذ كان نزول الآية وقضية الكساء في بيتها، فقالت: وأنا معكم يا رسول الله، ورفعت الكساء لتدخل فجذبه من يدها، وقال: إنك على خير، وفي ذلك كله صحاح متواترة من طريق العترة الطاهرة. فيا أهل البصائر برسول الله صلى الله عليه وآله، العارفين بمبلغه من الحكمة والعصمة، المقدرين قدر أفعاله وأقواله ! هل تجدون وجهاً لحصرهم تحت الكساء عند تبليغه الآية عن الله تعالى إلا المبالغة البليغة في توضيح ما قلناه من اختصاصها بهم، وامتيازهم بها عن العالمين ؟ وهل تفهمون من قوله " اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " إلا الحصر بهم، والقصر عليهم؟ وهل ترون وجهاً لجذب الكساء من يد أم سلمة ومنعها من الدخول معهم - على جلالة قدرها وعظم شأنها- إلا الذي ذكرناه ؟ فأين تذهبون ؟ وأنّى تؤفكون؟ " إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين . مُطاعٍ ثم أمين . وما صاحبكم بمجنون " التكوير : 19 - 22 . فيكون بحجبه إياهم (ع) في كسائه عابثاً ؟ أو يكون بقوله:" اللهم هؤلاء أهل بيتي" هاذياً ؟ أو يكون بجذبه من يد أم سلمة مجازفاً ؟ حاشا لله " إن هو إلا وحي يُوحى . علّمه شديد القوى " النجم : 4- 5 . وقد تكررت منه صلى الله عليه وآله قضية الكساء حتى احتمل بعض العلماء تكرار نزول الآية أيضاً، والصواب عندنا نزول الآية مرة واحدة، لكن حكمة الصادق الأمين صلى الله عليه وآله في نصحه ببلاغه المبين، اقتضت تكرير القضية مرة في بيت أم سلمة،- كما تدل عليه بعض الأحاديث التي قرأتها عن أم سلمة رضوان الله تعالى عليها- عند نزول الآية وتبليغها لأهلها المخاطبين فيها، وأخرى في بيت فاطمة . وفي كل مرة يتلو عليهم الآية مخاطباً لهم بها، وهم في معزل عن الناس تحت ذلك الكساء، درءً للشبهة في تحور أهل الزيغ . وقد بلغ - بأبي هو وأمي - في توضيح اختصاص الآية بهم كلَّ مبلغ، وسلك في إعلان ذلك مسالك ينقطع معها شغب المشاغب، ولا يبقى بعدها اثر لهذيان النواصب، حتى كان بعد نزول الآية كلما خرج إلى الفجر يمرُّ ببيت فاطمة فيقول: الصلاة يا أهل البيت " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " . وقد استمر على هذا ستة أشهر في رواية أنس ( مسند أحمد بن حنبل ج3 ص259)، وعن ابن عباس سبعة أشهر ذكرها النبهاني، وغيره ثمانية أشهر، وفي رواية تسعة أشهر، أو اكثر أو أقل كما عرفت سابقاً ـ فصرح الحقُ عن محضه، وبدا الصبح لذي عينين . لكن حثالة من أعداء أهل البيت، وصنائع بني أمية ودعاة الخوارج، ذهبوا في صرف الآية عن أهلها كل مذهب، فقال بعضهم: إنها خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وآله، وتشبثوا بسياق الآية، وبالغ عكرمة ومقاتل بن سليمان في الانتصار لهذا الرأي والاستدلال بالسياق عليه، وكان عكرمة ينادي به في الأسواق تحاملاً على أصحاب الكساء، ولا عجب فإن عكرمة من الدعاة إلى عداوة علي عليه السلام، والسماة في تضليل الناس عنه بكل طريق . ثم قال: وأما مقاتل فقد كان عدواً لأمير المؤمنين عليه السلام أيضاً، وكان دأبه صرف الفضائل عنه عليه السلام، حتى افتضح بذلك. قال إبراهيم الحربي كما في ترجمة مقاتل من وفيات ابن خلكان: قعد مقاتل بن سليمان فقال(إطفاء لنور أمير المؤمنين) : سلوني عما دون العرش، فقال له رجل: أخبرني من حلق راس آدم حين حج؟ فبهت. وكان مقاتل مع ذلك كله من رجال المرجئة وغلاة المشبهة. ثم قال: وآية التطهير جاءت مستطردة بين آيات النساء، فنبين بسبب استطرادها، خطاب الله لهن بتلك الأوامر والنواهي والنصائح والآداب لم يكن إلا لعناية الله تعالى بأهل البيت " أعني الخمسة" لئلا ينالهم "ول من جهتهن" لوم أو ينسب إليهم " ولو بواسطتهن"، هناة أو يكون عليهم للمنافقين " ولو بسببهن" سبيل، ولولا هذا الاستطراد، ما حصلت هذه النكتة الشريفة التي عظمت بها بلاغة الذكر الحكيم، وكمل إعجازه الباهر كما لا يخفى . [ الصفحة السابقة ] [ البداية ] |