المبحث الخامس: آية التطهير والسياق القرآني : قد تعرفت على ما هو المراد من أهل البيت في الآية الشريفة من خلال الإمعان فيها وفي ظل الروايات الواردة في كلام النبي صلى الله عليه وآله، غير أن هناك ما يدعى بمشكلة السياق، وهي أن الآية وردت في ثنايا الآيات المربوطة بنساء النبي (ص) على وجه يكون قبلها وبعدها راجعاً إليهن، ومع ذلك كيف يمكن أن تكون هذه الآية راجعة إلى أهل البيت بالمعنى الذي عرفت ؟ وبعبارة أخرى: أن آية التطهير جزء من الآية الثالثة والثلاثين، التي يرجع صدرها وذيلها إلى نساء النبي (ص)، فعندئذ كيف يصح القول بأنها راجعة إلى غيرهن، فإن وحدة السياق قاضية على أن الكل راجع إلى موضوع واحد، وإرجاعها إلى غير نسائه يستلزم التفكيك بن أجزاء آية واحدة، نعم لو كانت آية التطهير آية مستقلة لكان الأمر سهلاً إذ كان الإشكال أضعف، ولكنها جزء من آية واحدة نزلت في نساء النبي (ص) . أي أن سياق الآيات يدل على أن المراد بآية التطهير، نساء النبي (ص). فكيف أخرجن عنها ؟ ! الجواب: لا إشكال ولا ريب في أن السياق من الأمور التي يستدل بها عن كشف المراد، ويجعل صدر الكلام ووسطه وذيله قرينة على المراد، ووسيلة لتعيين ما أُريد منه، ولكنه- أي السياق - حجة إذا لم يقم دليل أقوى على خلافه، فلو قام ترفع اليد عن وحدة السياق وقرينيته . وبعبارة أخرى: إن الاعتماد على السياق إنما يتم لو لم يكن هناك نص على خلافه، وقد عرفت النصوص الدالة على خلافه . أضف إلى ذلك أن هناك دلائل قطعية على أن آية التطهير، آية مستقلة نزلت كذلك، ووقعت في ثنايا الآية المربوطة بأزواج النبي (ص) لمصلحة كان صاحب الشريعة أعرف بها . وإليك الدلائل الدالة على استقلالها : أولاً: الروايات: عرفت فيما سبق، أن الروايات المنتهية إلى الأصحاب وأمهات المؤمنين والتابعين لهم بإحسان، قد أطبقت على نزولها مستقلة، سواء أقلنا بنزولها في حق العترة الطاهرة، أو زوجات النبي (ص) أو أصحابه، فالكل - مع قطع النظر عن الاختلاف في المنزول فيه - اتفقوا على نزولها مستقلة، وقد مضت النصوص، أن أم سلمة تقول: " نزلت في بيتي { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } . وروى أبو سعيد الخدري، عن رسول الله (ص): " نزلت هذه الآية في خمسة: فيّ وفي علي وفاطمة وحسن وحسين { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً }. وروت عائشة: خرج النبي (ص) ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر اسود، فجاء الحسن فأدخله معه، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء علي فأدخله معه، ثم قال { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } . وأخرج ابن سعد عن عروة ابن الزبير أنه قال: { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } قال: أزواج النبي، نزلت في بيت عائشة . فالموافق والمخالف اتفقا على كونها آية مستقلة، إما نزلت في بيت أم سلمة أو في بيت عائشة، وإما في حق العترة أو نسائه . والشأن كل الشأن في اتصال الآية بما قبلها من الآيات، فالأحاديث على كثرتها البالغة، ناصة على نزول الآية وحدها، ولم يرد حتى في رواية واحدة نزول هذه الآية في ضمن آيات نساء النبي (ص)، ولا ذكره أحد حتى القائل باختصاص الآية بأزواج النبي (ص)، كما ينسب إلى عكرمة وعروة، فالآية لم تكن بحسب النزول جزء من آيات نساء النبي (ص) ولا متصلة بها، وإنما وضعت بينها بأمر من النبي (ص) أو عند التأليف ( أعني جمع القرآن ) بعد رحيله (ص) . وعلى ذلك تسهل مخالفة السياق، والقول بنزولها في حق العترة الطاهرة، وأن الصدر والذيل راجعان إلى نسائه (ص) لا ما ورد في ثناياها، فهو راجع إلى غيرهن . ثانياً: الالتفات: فإن من عُرْفِ عادة الفصحاء في كلامهم، أنهم يذهبون من خطاب إلى غيره، ويعودون إليه، وهو من قبيل الالتفات المذكور في علم البلاغة، الذي هو من محاسن الكلام. والقرآن مملوء من ذلك، وكذلك كلام العرب وأشعارهم . إن من فنون البلاغة في القرآن الحكيم، أن يتوسط كلاماً جديداً، بين الجمل المتناسقة، اتقاء عن ملالة السامع والقارئ من كلام رتيب، والتنبيه على الكلام الوارد . وعليه ديدن العرب في محاوراتهم، فربما يرد في موضوع قبل أن يفرغ من الموضوع الذي كان يبحث عنه إليه ثانياً ، وهذا من خواص الكلام البليغ، كما هو دأب القرآن الكريم في آيات أخر، فتدبر في القرآن الكريم، فإن التدبر فيه يجلي البصر، ويصفي الرأي . روي عن الامام الصادق سلام الله تعالى عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين:" أن الآية من القرآن يكون أولها في شيئ وآخرها في شيئ" . ونقل صاحب تفسير المنار في ج2 ص451 طبعة ثانية، عن أستاذه الشيخ محمد عبده :" إن من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن آخر، ثم يعود إلى مباحث القصد الواحد المرة بعد المرة " . وعلى هذا فلا يصح الاعتماد على دلالة السياق لأي الذكر الحكيم كقاعدة كلية . وإن القرآن الكريم مملوء من ذلك الأسلوب، وهو بنفسه أكبر شاهد: " إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم"، ثم قطع سبحانه وتعالى كلام لقمان، فقال:" ووصينا الإنسان بوالديه ...."، ثم وصل كلام لقمان مع ابنه فقال:" يا بني إنها إن تك مثقال ذرة من خردل" لقمان : 13- 16 . وقال سبحانه وتعالى ناقلاً عن" العزيز" مخاطباً زوجته: { إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين } يوسف : 28 -29 . فنرى أن العزيز يخاطب أولاً امرأته بقوله { إنه من كيكن } وقبل أن يفرغ من كلامه معها، يخاطب يوسف (ع) بقوله { يوسف أعرض عن هذا }.. ثم يرجع إلى الموضوع الأول، ويخاطب زوجته بقوله: { واستغفري لذنبك }.... فقوله { يوسف أعرض عن هذا } جملة معترضة وقعت بين الخطابين، والمسوغ لوقوعها بينهما كون المخاطب الثاني أحد المتخاصمين، وكانت له صلة تامة بالواقعة التي رفعت إلى العزيز . وقال سبحانه وتعالى { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أُحيط بهم....} يونس : 22 . فنجد أن الله تعالى قد خاطب الناس بضمير المخاطب الحاضر وهو " يسيركم.... كنتم"، ثم عدل سبحانه إلى ضمير الغائب وهو " وجرين بهم..... وظنوا " إلى آخر الآية، ولم يقل وجرين بكم.... وفرحتم بها.... جاءكم الموج.... وظننتم... دعوتم الله مخلصين، اتقاءً عن ملالة السامع، والتنبيه على الأمر . وأمثال ذلك في القرآن العزيز كثيرة جداً . والضابط الكلي لهذا النوع من الكلام، هو وجود التناسب المقتضي للعدول من الأول إلى الثاني، ثم منه إلى الأول، وهي أيضاً موجودة في المقام، فإنه سبحانه يخاطب نساء النبي صلى الله عليه وآله بالخطابات التالية : 1- { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } . 2- { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن... } . 3- { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } . فعند ذلك صح أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وذلك لوجهين: الأول: تعريفهن على جماعة بلغوا في التورع والتقى، الذروة العليا وفي الطهارة عن الرذائل والمساوئ القمة . وبذلك استحقوا أن يكونوا أسوة في الحياة، وقدوة في مجال العمل، فيلزم عليهن أن يقتدين بهم ويستضئن بضوئهم . الثاني: التنبيه على أن حياتهن مقرونة بحياة أمة طاهرة من الرجس ومطهرة من الدنس، ولهن معهم لحمة القرابة ووصلة الحسب، واللازم عليهن التحفظ على شؤون هذه القرابة، بالابتعاد عن المعاصي والمساوئ، والتحلي بما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولأجل ذلك يقول { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء }، وما هذا إلا لقرابتهن من رسول الله صلى الله عليه وآله، وصلتهن بأهل بيته . وهي لا تنفك عن المسؤولية الخاصة، فالانتساب للنبي الأعظم (ص) ولبيته الرفيع، سبب المسؤولية ومنشؤها، وأن المنظور من تأديب الله تعالى لنساء نبيه (ص) تطهير أهل البيت، جاء بهذه الجملة المعترضة بين أحكام نساء النبي (ص)، وفي ضوء هذين الوجهين صح أن يطرح طهارة أهل البيت في أثناء المحاورة مع نساء النبي (ص) والكلام حول شؤونهن . ولا يبعد ن يكون اختلاف آية التطهير مع ما قبلها، على طريق الالتفات من الأزواج إلى النبي صلى الله عليه وآله، وأهل بيته، على معنى تأديب الأزواج وترغيبهن إلى الصلاح والسداد، من توابع إذهاب الرجس والدنس عن أهل البيت عليهم السلام، فالحاصل أن نظم الآية على هذا: أن الله تعالى رغّب أزواج النبي (ص) إلى العفة والصلاح، بأنه إنما أراد في الأزل أن يجعلكم معصومين يا أهل البيت، واللائق أن يكون المنتسب إلى المعصوم عفيفاً صالحاً . وإنما جعل سبحانه هذه الآية في أثناء ذكر الأزواج وخطابهن للتنبيه على أنه سبحانه أمرهن ونهاهن وأدبهن إكراماً لأهل البيت وتنزيهاُ لهم عن أن تنالهم بسببهن وصمة، وصوناً لهم عن أن يلحقهم من أجلهن عيب، ورفعاً لهم عن أن يتصل بهم أهل المعاصي، ولذا استهل سبحانه الآيات بقوله { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } ضرورة أن هذا التمييز، إنما هو للاتصال بالنبي وآله،لا لذواتهن، فهن في محل، وأهل البيت في محل آخر، فليست الآية الكريمة إلا كقول القائل: يا زوجة فلان، لست كأزواج سائر الناس فتعففي، وتستري، وأطيعي الله تعالى، إنما زوجك من بيت أطهار، يريد الله حفظهم من الأدناس وصونهم عن النقائص . لذا تحل آية التطهير محلات النساء والنبي صلى الله عليه وآله، لتحمل تطهيرهن إلى تطهيرهم، ولذلك نرى في الأكثرية المطلقة من روايات التطهير، ليس لرسول الله (ص) ليرضى دخول مثل أم سلمة الطاهرة في أهل البيت المعنيين بأدلة التطهير، اللهم إلا شذراً بقوله" إن شاء الله " أنها قد تدخل في أهل البيت دخولاً منفصلاً، إذا أصلحت وقنتت لله ورسوله، فطهارة أهل هذا البيت وجاه الناس بعد طهارتهم (ع) عند الله تعالى . ثالثاً: الدلائل اللفظية والمعنوية: فالآية تصلح لفظياً ومعنوياً أن تكون آية مستقلة عما تصدرتها، نازلة لوقت آخر، وملخصه : أن آية " وقرن في بيوتكن " على انسجامها واتصالها، لو قدّر ارتفاع آية التطهير من بين جملها، لا يختل معناها، فموقع آية التطهير من آية " وقرن في بيوتكن "، كموقع آية " اليوم يئس الذين كفروا " من آية محرمات الأكل من سورة المائدة المباركة، الآية 3 . والبيان: أن قوله تعالى { إنما يريد الله.....} في المصاحف جزء من الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب المباركة، فلو رفعناه -أي الجزء المتعلق بالتطهير- منها، لم يتطرق أي خلل في نظم الآية ومضمونها، وتتحصل من ضم الآية الرابعة والثلاثين إلى ما بقيت، آية تامة واضحة المضمون، مبينة المرمى، منسجمة الفاصلة، مع فواصل الآيات المتقدمة عليها، وإليك تفصيل الآية في ضمن مقاطع: 1- { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهيلة الأول وأقمن الصلاة وأتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } . 2- { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراًً } . 3- { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً } . فلو رفعنا قوله: { إنما يريد الله... } وضممنا ما تقدم عليه بما تأخر، جاءت الآية من دون حدوث خلل في المعنى والنظم، وهذا دليل على أن قوله تعالى { إنما يريد الله ... } آية مستقلة، وردت في ضمن آيات نساء النبي صلى الله عليه وآله، لمصلحة سنشير إليها . فلو كانت { وقرن في بيوتكن ... } إلى قوله تعالى { ويطهركم تطهيراً } آية كاملة في نزولها، لاختلف اللفظ والمعنى، بمجرد إزالة جزء منها، بل بإزالة كلمة واحدة فقط، فضلاً عن جزء كامل منها . وكما قلنا سابقاً أن الراويات صريحة في نزول هذه الآية وحدها، بل حتى إن القائل باختصاص الآية بأزواج النبي (ص) لم يذكر أن الآية نزلت ضمن آيات نساء النبي (ص)، فلم تكن بحسب النزول جزءً منها، ولا متصلة بها، وإنما وضعت بأمر النبي (ص)، أو عند جمعه . وهذا ليس بدعاً، فله نظائر في القرآن الكريم . فقد تواترت السنة المقدسة، وروى الفريقان أن قوله تعالى { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشونِ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } نزل في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام من الهجرة في حجة الوداع، في رجوع النبي (ص) من مكة إلى المدينة في مكان يقال غدير خم، عندما أمر الله تعالى نبيه أن ينصب علياً عليه السلام إماماً وخليفة من بعده . وتجد ذلك في: ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج2 ص75 ح575 و576 و577 و578 و585 ط1 بيروت- دار التعارف للمطبوعات . شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج1 ص157 ح211 و212 و213 و214و215 و250 ط1 بيروت، بتحقيق المحمودي، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج8 ص290 ط السعادة بمصر، الدر المنثور في تفسير القرآن لجلال الدين السيوطي الشافعي ج2 ص259 ط1 بمصر ، الإتقان للسيوطي الشافعي ج1 ص31 ط سنة 1360هـ ، و ج1 ص52 ط المشهد الحسيني بمصر، المناقب للخوارزمي الحنفي ص80 ط الحيدرية، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنفي ص30 ط الحيدرية وص 18 ط آخر، تفسير ابن كثير الشافعي ج2 ص14 ط1 بمصر، وج3 ص281 ط بولاق، مقتل الحسين للخوارزمي الحنفي ج1 ص47 ط مطبعة الزهراء، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص115 ط اسلامبول، وص135 ط الحيدرية، فرائد السمطين للحمويني ج1 ص72 و74 و315 ط بيروت، وغيرها . نعود إلى اصل الموضوع، فتلك الآية نزلت في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله، مع أنه في المصاحف جزء من الآية الثالثة من سورة المائدة المباركة، التي -أي الآية- تبيِّن أحكام اللحوم، النازلة قبل آية ( اليوم أكملت لكم دينكم ...... )، وإليك نفس الآية في مقاطع ثلاثة: 1- { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذُبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق } . 2- { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشونِ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } . 3- { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } المائدة : 3 . فإذا رفعنا الجزء الثاني يحصل من ضم الأول إلى الثالث آية تامة من طرو خلل في مضمونها ونظمها، وذلك دليل على أن الجزء الثاني آية مستقلة، وردت في ضمن آية أخرى بتصويب صاحب الشريعة الغراء، أو بتصويب من جامعي القرآن الكريم بعد رحلته صلى الله عليه وآله إلى جوار ربه الكريم . أضف إلى ذلك أن مضمون الآية - أعني أحكام اللحوم - قد ورد في آيات أُخر من دون أن تشتمل على هذه الزيادة، فهذه قرينة أخرى على أن ما ورد في الأثناء ليس من صميم الآية في سورة المائدة، وإنما وضعت في أثنائها بأمر من النبي الأكرم (ص) لمصلحة سنشير إليها، أو بأمر من جامعي القرآن العظيم . رابعاً: دلالة النص: فلو سلمنا - جدلاً - بصحة الاعتماد على دلالة السياق للآيات بشكل خاص، فإن قوله تعالى:" ليذهب عنكم ....... ويطهركم " بضمير المذكر، دون ضمير المؤنث، هو نص صريح على إخراج نساء النبي صلى الله عليه وآله، من الآية المباركة . وليس من شك أن دلالة النص مقدمة على دلالة السياق، لأنها أقوى وأظهر، كما أثبتنا ذلك سابقاًً . إذاً فبالرغم من أن هذه الآية وردت ضمن الآيات المتعلقة بنساء النبي (ص)، إلا أن تغير سياقها - حيث تبدل ضمير الجمع المؤنث على ضمير الجمع المذكر- دليل على أن لهذه الآية معنى ومحتوى مستقلاً عن تلك الآيات، ولهذا فحتى أولئك الذين لم يعتبروا أن الآية مختصة بمحمد (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين سلام الله تعالى عليهم، فإنهم اعتقدوا أن لها معنى واسعاً يشمل هؤلاء العظام ونساء النبي (ص)، إلا أن الروايات التي بين أيدينا تبين أن هذه الآية خاصة بهؤلاء الأجلاء، ولا تدخل الزوجات ضمن الآية . بالرغم من أنهن يتمتعن باحترام خاص . السر في جعل هذه الآية جزءً من آية أخرى قد اتضح مما ذكرنا، أن القرآن الكريم إنما انتقل إلى موضوع أهل البيت وخطابهم لأجل إعلام نساء النبي صلى الله عليه وآله، بأنهن في جوار هؤلاء المطهرين، فيجب عليهن القيام بأداء حقوق هؤلاء العظماء، الذين ميزهم الله تعالى عن غيرهم من هذه الأمة بالتطهير والعصمة والاقتداء يهم في القول والسلوك . ولكن يبقى هنا سؤال آخر، وهو أنه ذا كانت الآية، آية مستقلة، فلماذا جاءت في المصحف جزءً من آية أخرى، ولم تكتب بصورة آية تامة في جنب الآيات الأخرى ؟ الجواب: لا نملك جواباً قطعياً حول ذلك، فصاحب الشريعة أدرى بذلك، أو من وضعها، غير أننا نستطيع القول: أن التاريخ يطلعنا بصفحات طويلة على موقف قريش وغيرهم من أهل البيت عليهم السلام، فإن مرجل الحسد مازال يغلي في رابعة النهار، فاقتضت الحكمة الإلهية أن تجعل الآية في ثنايا الآيات المتعلقة بنساء النبي صلى الله عليه وآله، من أجل تخفيف الحساسية ضد أهل البيت، وإن كانت لا تخفى على من نظر إليها بعين صحيحة، وأن الآية تهدف إلى جماعة أخرى غير نساء النبي صلى الله عليه وآله . وهناك جواب آخر: وهو أن استقرار آية التطهير تأليفاً - أي جمعاً - في آية القرار " وقرن "، أمر قاسط، إذ يعني التأليف بين بيتي النبي الأقدس (ص) في الظاهر النسائي - أي بالمعنى العام للأهل -، والباطن المعرفي ففي قمة العصمة والطهارة، وليس لها موضع أنسب منها، بالرغم ما يعرف من تحريف موضوعها، أي أنها تعني نساء النبي (ص)، كما عنتهن سائر الخطابات . أو أنه (ص) جعلها ههنا كيلا تحرف عما تعنيه، من أنها تختلف عن خطابات سائر نساء النبي (ص)، كحكمة إلهية تحول دون التحريف في معناها، ولا تحريف في القرآن ولن يكون، بأدلة الحفظ عقلياً وكتابياً وفي السنة القطعية. ولا معول على الأخبار التي يشم منها رائحة التحريف اللفظي، وإن كان في أوثق الكتب المعتبرة، وليعلم بأن الأحاديث التي توحي بالتحريف عند غيرنا أكثر منها عندنا، ولكن نعلم يقيناً أن تلك الأحاديث لا يقبل بها كافة المسلمين، فلا يؤخذ بها . فالقرآن الكريم هو ما بين الدفتين، والقائل بغير ذلك مشتبه أو مغالط أو مختلق أو كاذب أو مفترٍ . [ الصفحة السابقة ] [ البداية ] |