الحجاب والعرف

       الشبهة الخامسة :- القول بجواز كشف الوجه لأن العرف العام لا يرى فيه فتنة !!..

       نتساءل:ما المقصود من العرف ؟ هل هو عرف الناس أم عرف الشرع أو ما يطلق عليه بعرف المتشرعة ؟! .

       قبل الحديث عن مقصود الفقهاء في ذلك ، نشرع في تقديم تمهيد ، ثم نجيب عن السؤال .

       يُعرَّف العرف بأنه " ما تعارف الناس وتسالموا على قوله أو فعله أو تركه ، وجروا على ذلك في حياتهم العامة وعلاقاتهم " (1).

        ثم اعلم أن الأحكام الشرعية لها مصاديق وحدود ، تدور حولها ، وحتى يمكن فهم حكم أي مسألة، فإن الفقهاء يبحثون عن كل ما يتعلق بها، وتسمى تلك بالموضوعات .

       ويعرف الموضوع بأنه :- الشيء الذي يحمل عليه الحكم، والذي يلعب دوراً مباشراً في فعلية هذا الحكم(2).

       وتقسم الموضوعـات إلى قسمين رئيسيين من حيث تعـيين المصاديق الخارجية للعناوين :-

       القسم الأول :-

       الموضوعات الخارجية:- وهي التي يشخصها العقلاء من المجتمع، لحكم في الشريعة، لمسألة لم يعطِ الشارع المقدس _أعني لم يبينها القرآن الكريم أو الروايات الشريفة_ فيها رأيه . أو هي تلك الموضوعات التي لا دخل للشارع المقدس فيها، وإنما بين أصولها، ولكن تشخيصها ووصفها يعود للمجتمع ، وعلى ضوءه يعطي الشرع الحكم .

       فمثلاً، يجوز الوضوء بالماء الطاهر، لكن هل يصدق على ذلك المـاء اسم ماء مطلق أو ماء مضاف (ورد مثلاً) ؟ فالتفريق بينها يعود للمجتمع ، حسب مفهومهم ومعرفتهم بالماء . وكذلك هل أن هذا المائع خمر أو خل ؟، فهذا يعود لتشخيص المجتمع أيضا ليحدد مصداقيتة، ومن ثم يفتي المجتهد على ضوء ذلك التشخيص .

       القسم الثاني :- الموضوعات المستنبطة، ولها قسمان أيضاً :

       ألف: موضوعات مستنبطة شرعية :- وهي المواضع المخترعة من الشارع المقدس، أي العناوين التي تملك معاني لغوية معينة، لكنها خضعت لتصرف الشارع، واستُعمِلت للدلالة على مفاهيم جديدة، وأبرز مثال الصلاة التي تعني في اللغة : الدعاء، وأما في الشرع فتعني تلك الأقوال والحركات العبادية المحددة . وكذلك الصوم الذي يعني في اللغة الامتناع عن كل شئ، أما في الشرع فأصبح معناه الإمسـاك عن جملة من أشياء محددة، وفي وقت محـدد تقرباً إلى الله تعالى . وكذلك الفتنة التي تعني في اللغة الاختبار، أما في الشرع في معرض النساء، فتعني الإغراء، والوقوع في الحرام، أو الإضلال عن الحق .

    وقد اصطلح على هذا الأمر عند القدماء بـ"عرف المتشرعة أو الشرع". ويحدده الشرع وليس المجتمع، ومثالنا من هذا القبيل .

       باء:  الموضوعات اللغوية والعرفية، وهذه تقسم إلى قسمين أيضاً :-

       1 _ موضوعـات عرفية ولغوية من اختراع وتصرف الشارع أيضاً، ولكنه وضع لها حـدوداً معينة، مثل الربا والغناء والحجـاب، فقد وضع لها الشرع المقدس حدوداً، إذا تجاوزتها حكم بأنها ربا أو غناء أو حجاب، فالربا يعني في اللغة الزيادة، ولكن ليس كل زيادة حرام، بل يشترط فيه أن تكون الزيادة من نفس الجنس، ومكيلاً أيضاً . والغناء ( بحسب معناه اللغوي أعم من ذلك(1)، فيشمل كل صوت حسن، ولذلك أمر في بعض الأحـاديث بالتغني بالقرآن )(2) أي حسنوا أصواتكم إذا قرأتموه، لكن إذا كان على نحو الترجيع بما يناسب مجالس أهل اللهو والباطل فإن ذلك هو المحرم . وكذلك الحجاب فإنه يعني الحاجز في اللغة، ولكن في الشـرع فيعني تغطية الجسم ، كما ستعرف ذلك لاحقاً .

       فهذه الموضوعات يتصرف فيها الشارع المقدس، فيتولى عملية التعيين والتحديد، بأن يقول _مثلاً_ أن المرأة بطبيعتـها، وبحد ذاتها مفتنة للرجل      _وهي كذلك_ . وكذلك فإن السفر في مفهوم الناس، هو الانتقال لمكان بعيد، وإقامته فيه أيضـاً، لكن الشرع الشريف يعتبر قطع مسافة مقدارها أربعة وأربعين كيلو متراً، سواء امتدادية أو تلفيقية، يعتبر ذلك سفراً شرعياً، ويفرض على ذلك أحكام السفر، بغض النظر عن اعتباره سفراً بنظر الناس أم لا .

        2_ موضوعات عرفية ولغوية لم يتصرف فيها الشارع، ولم يضع لها حدوداً، والمعيار المستخدم في إدراك مفاهيمها وتعيين مصاديقها، هو العرف العـام واللغة، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومـين عليهـم السلام يرجعون إلى العرف في تعيين المفاهيم، وبيان المصاديق، فيشرِّعـون الحكم على أساس الفهم العرفي، كالمائع هل هو خمر أم خل ؟ فيرجع إلى الخبراء في معرفة ذلك، ثم إعطاء الحكم على ضوء ذلك، وهذا يعـرف بالموضوعات الخارجية. ولكن وضعت تحت الموضوعـات اللغوية والعرفية على حسب تقسمها تبعا للزاوية التي ينظر منها إلى تلك الموضوعات، فقد توضع تحت هذا العنوان، أو في عنوان مستقل كما في أول التقسيم . وهناك تقسيمات عديدة لا مجال لاستعراضها .

       فحدود مسؤولية المرجع في تعيين الموضوعات التي هي من اختـراع الشرع، وذات حقيقة شرعية، وهي الموضوعـات المستنبطة الشرعية اللغوية والعرفية التي يتصرف فيها الشرع المقدس، فالذي يحدد أن المرأة مفتنة هو الشرع لا الناس .

       والكثير من الفقهاء يوجبون الرجوع إلى المرجع الفقيه في تعيين وفهم الأحكام المستنبطة، الفرعية منها واللغوية، وكما قال السيد الخوئي" قده" أن {الصحيـح وجوب التقليد في الموضوعـات المستنبطة الأعم من الشرعيـة وغيرها، وذلك لأن الشك فيها بعينه الشك في الأحكام، ومن الظاهر أن المرجـع في الأحكام الشرعية المترتبة على تلك الموضوعات المخترعة هـو المجتهد، فالرجوع إليه عبارة أخرى عن الرجوع إليه في الأحكـام المترتبة عليها }(1).

       وبالجملة : فإن { محل التقليد هو الأحكـام الفرعية العملية فحسب ، فلا يجري في الأحكام الأصولية، ولا في مسائل أصول الفقه، ولا في مبادئ الاستنباط من النحو والصرف والمنطق ونحوها، ولا في الموضوعات الخارجية، فلو شك المقلِّد_بالكسر_في مائع أنه خمر أو خل _مثلاً_وأخبر المجتهد أنه خمر لم يجب عليه التقليد فيه بل لا يجوز،نعم يقبل قوله بعنوان أنه مجرد عادل. كما في إخبار العامي، وأما في الموضوعـات المستنبطة العرفية أو اللغوية أو الشرعية فلا مناص ومن الالتزام بجريان التقليد فيها،فإذا بنى المجتهد أن الصلاة _مثلاً_اسم للصحيحة منها أو الأعم أو أن الغناء اسم للصوت المطرب لا ما اشتمل على الترجيع من دون طرب_مثلاً_، وجب على العـامي أن يقلد فيهما كوجوب تقليده في الأحكام }(1)، وكذلك لو أراد العـامي أن يعمل مشروعاً خيرياً، فلا بأس بذلك، ولكن لا بد أن يحرز رضا الشـارع المقدس في ذلك المشروع وفي أهدافه وفي تحديد جهـات مصروفاته، فتحديد شرعية تلك الأمور من وظيفة الشرع لا من وظيفة الناس .

       ولمعرفة المزيـد من الآراء الفقهية في أن تقليد المجتهد في الموضوعـات المستنبطة باقسامها جائز عند الفقهاء، بل عند أكثرهم واجب كما ستعرف، فلا أعلم _حسب تتبعي لآراء الفقهاء_ من يقول بعدم جواز تقليد المجتهد في الموضوعات المستنبطة العرفية واللغوية، والموضوعات المستنبطة الصرفة، سوى السيد محمد كاظم اليزدي(أعلى الله مقامه)صاحب العروة . أما باقي الأعلام فلم يوافقوه في فتواه، نعم وافقه السيد الخميني (أعلى الله مقامه) وسنورد فتوى السيد اليزدي(قده)، ثم تعليقات الأعلام بعد ذلك .

       قال السيد اليزدي(قده) : (مسألة:67):- محل التقليد ومورده هـو الأحكام الفرعية العملية، فلا يجزئ في أصول الدين وفي مسائل أصول الفقه، ولا في مبادئ الاستنباط من النحو والصرف ونحوهما، ولا في الموضوعـات المستنبطة العرفية أو اللغوية، ولا في الموضوعات الصرفة، فلو شك المقلد في مائع أنه خمر أو خل مثلاً، وقال المجتهد أنه خمر، لا يجوز له تقليده . نعم من حيث أنه مخبر عادل يقبل قوله، كما في إخبار العامي العادل، وهكذا، وأما الموضوعات المستنبطة الشرعية كالصلاة والصوم ونحوهما فيجزي التقليد فيها كالأحكام العملية (1).

       وأما تعليقات الأعلام فهي كالتالي :-

       أ_ السيد الخوئي(قدس سره الشريف): علق على قول السيد اليزدي (قده)"ولا في الموضوعات المستنبطة العرفية أو اللغوية" بقوله" لا فـرق في الموضوعات المستنبطة بين الشرعية والعرفية في أنها محل للتقليد، إذ التقليد فيها مساوق للتقليد في الحكم الفرعي كما هو ظاهر " .

       ب_ السيد الكلبيكاني (قده)": علق على قول السيد اليزدي السـابق بقوله " لكن الحكم المترتب عليها مورد للتقليد".

       ج_ السيد شهاب الدين المرعشي النجفـي(قده): علق بعد القـول السابق للسيد اليزدي بقوله " الأقوى جواز التقليد فيها، فانها وإن لم تكن بنفسـها موارد للتقليد لكنها مما يؤول التقليد فيها إلى التقليد في الأحكـام الشرعية ".

       د_ السيـد حسن القمي(دام ظله): علق على القول السابق بقولـه      " الظاهر جريانه فيها"(2).

       هـ_ الشيـخ محمد اسحاق الفياض(دام ظله): علق على قول السيد اليزدي" ولا في مبادئ الاستنباط " بقوله " لا بأس بالتقليد في مسائل أصول الدين، فاذا كان شخص قادر على عملية الاستنباط وهي تطبيق القواعد العامة الأصولية على عناصرها ولكنه غير متمكن من الاجتهاد في نفس تلك القواعد كحجية خبر الواحد أو الاستصحاب او نحو ذلك لا بأس بالرجوع إلى المجتهد فيها لأنه من رجوع الجاهل إلى العـالم فيكون مشمولاً لسـيرة العقلاء، وأما التقليد في الموضوعات المستنبطة كالصـلاة والصيام والغـناء والجـذع والثني ومحوها فلا مناص عنه، والا فلا بد فيها من الاجتـهاد أو الاحتياط"(1). أقـول : ترى أن الشيخ(دام ظله) قال" في الموضوعـات المستنبطة" ولم يقيدها بمعنى أنه أطلق مقصوده، فتشمل الموضوعات المستنبطة العرفية والشرعية والصرفة واللغوية وغيرها، بقرينة  قوله "ونحوها" .

       و_ السيد السيستاني(دام ظله): علق على قول السيد اليزدي " ولا في مسائل أصول الفقه " بقوله " الأظهر جواز التقليد فيها بالجملة". ثم علـق على قول السيد اليزدي " ولا في الموضوعات المستنبطة العرفية أو اللغوية "بقوله "الأظهر جواز التقليد فيها "(2).

       ز_ السيد الشيرازي (دام ظله): علق على قول السيد اليزدي "فلا يجري في أصول الدين "بقوله " فيه تفصيل "، ثم علق على قـول السيد اليزدي " ولا في مبادئ الاستنبـاط من النحو والصرف" بقوله " لا يبعد جريان التقليد فيها وفيما ذكر بعدها "(3).    

       وبعد هذه المقدمة نستنتج أن العرف ينقسم إلى قسمين رئيسيين من حيث حكمه ومشروعيته :-

       الأول: العرف الصحيـح : وهو ما ليس فيه مخالفة لنص شرعي، ولا تفويت مصلحة ولا جلب مفسدة، من قبيل تعارفهم على استعمال لفظ في غير معناه اللغوي، أو تعارفهم على تقديم بعض المهر وتأخير بعضه .

       الثاني: العرف الفـاسد : وهو ما خالف الشرع، كتعارف العقـود الربوية بين الناس، والعاب المقامرة، وحرمان البنت من الميراث، وغير ذلك مما علم بردع الشارع عنه(1).

       فقد رأيت أن كشف المراة يوجب تفويت مصلحة وجلب مفسـدة أيضاً ، فهو عرف فاسد غير صحيح .

       إذاً، فالعرف الذي يعنيه الفقهاء في ستر المرأة وجهها، وفي الحجاب ، أو أي شئ له علاقة بالشـرع ، هو عرف الشرع أو المتشرعة، وليس عرف الناس أو العوام ، فذاك ليس من اختصاصهم، بل هو من اختصاص الشرع الأقدس .  

الفهرس البداية