مناسبة القصيدة : حج هشام بن عبد الملك في زمن خلافة أخيه الوليد بن عبد الملك ، وقد صحبته الشرطة ، واحتفت به الوجوه والأعيان من أهل الشام ، وقد جهد علىاستلام الحجر الأسود ، فلم يستطع لازدحام الحجاج ، وتدافعهم على تقبيل الحجر ، ولم يعنِ أحد بهشام ولم يفسح له ، فقد انعدمت الفوارق في ذلك البيت العظيم ، فنصب له منبر ، وجلس عليه ينظر إلى الناس ، وحوله أهل الشام ، وبينما هو جالس ، إذ أقبل ذو الطلعة الغراء ، الإمام علي بن الحسين (ع) . وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً ، ليؤدي طوافه ، فلما بصر به بعض من يعرفه من الحجاج ، نادى بأعلى صوته " هذا بقية الله في أرضه ، هذا بقية النبوة ، هذا إمام المتقين وسيد العابدين .. " ، وكانت بين عينيه ثفنات من أثر السجود ، كركب الأبل . وغمرت الحجاج هيبة الإمام التي تعنو لها الوجوه والجباه ، وهي تحكي هيبة جده رسول الله (ص) ، وتعالت الأصوات من جميع جنبات المسجد بالتهليل والتكبير ، وانفرج الناس له سماطين فكان السعيد من يقبل يده ، ويلمس احرامه ، وضج البيت بالتكبير ، وذهل أهل الشام ، وبهروا من هذا المنظر الرهيب ، فانهم لا يرون أحداً جديراً بالتكريم والتعظيم ، غير الأسرة الأموية ، فهي وريثة النبي (ص) والقريبة إليه ، حسب ما أكده الإعلام الأموي ، وبادر الشاميون إلى هشام قائلين : من هذا الذي قد هابه الناس هذه المهابة ؟ وكان الإمام (ع) كلما وصل إلى موضع الحجر الأسود تنحى الناس عنه ، حتى يستلمه ، هيبة له وإجلالاً ، فغاظ ذلك هشام ، وحسد الإمام (ع) على ما اتاه الله تعالى ووهبه إياه من الهيبة والعظمة والجلال ، وانتفخت أوداجه ، وتميز من الغيظ ، وبرزت عينه الحولاء . فصاح هشام : لا أعرفه . وفي رواية أن هشاماً نفسه هو الذي قال : من هذا ؟ كـأنه نكره ولم يعرفه ، بالرغم من أنه يعرف الإمام (ع) حق المعرفة ، وإنما قال ذلك ، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام ويزهدوا في بني أمية ، وللازدراء بالإمام (ع) وتهوين أمره وقدره ، وكان الفرزدق شاعر العرب الكبير حاضراً ، فاستيقظ ضميره ، واستوعب الحق فكره ، وقد أخذته الرعدة ، فاندفع بحماس قائلاً لأهل الشام : أنا أعرفه : فقال أهل الشام " ومن هو يا أبا فراس ؟ ... " وذعر هشام ، وفقد
صوابه مخافة أن يُعرّفه الفرزدق إلى
أهل الشام ، فصاح به " أنا لا أعرفه
...... " وخف الشاميون وغيرهم نحو شاعر العرب الأكبر ، وقد استحالوا إلى أذن صاغية ، وانبرى الفرزدق ، وكله حماس لنصرة الحق ، فارتجل هذه القصيدة العصماء التي مثلت صدق القول وجمال الأسلوب وانشد على البديهة قصيدة طويلة في مدحه (ع) بين تلك الجموع قال فيها : القصيدة : ثم قال الفرزدق
هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
. وأمر هشام با
عتقال الفرزدق ، فاعتقل واودع في
سجون عسفان ، وهو منزل يقع ما بين مكة
والمدينة ، وبلغ ذلك الإمام زين
العابدين (ع) فبعث إليه بإثنى عشر ألف
درهم ، فردها الفرزدق ، وقال : إني لم
أقل ما قلت إلا غضباً لله ولرسوله ،
ولا آخد على طاعة الله أجراً ،
فأعادها الإمام (ع) وأرسل إليه : نحن
أهل بيت لا يعود إلينا ما اعطينا ،
فقبلها الفرزدق . فلما وصل هجاء الفرزدق لهشام ، أمر بإطلاقه ، فأطلق سراحه . [صفحة البداية ] |