اكتشاف البتـرول

يعتبر اكتشاف البترول أعظم حدث في تاريخ القطيف ، فقد نقلها فجأة إلى حضارة القرن العشرين بعد أن كانت تعيش على هامش الحياة في القرون الوسطى ، نائمة خلف أبواب أسوارها تغلقها ليلاً وتفتحها نهاراً ، وفي حياة شبه انعزالية ، لا تعرف عما يدور في العالم ، وما يستجد فيه من حضارة ومدينة ، بين طرقات ضيقة وسوابيط مظلمة ومستنقعات ، لا تسمع في أجوائها إلا نهيق الحمير ونباح الكلاب وابن أوى ونفيق الضفادع ، وكانت على شفا جرف من الفقر المدقع لا سيما أيام الازمة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى ، وكانت أفضل بلدان الخليج في ذلك العهد إمارة البحرين ، التي غشيها شيء من بصيص الحضارة الحديثة ، بحكم مركزها التجاري وأنفتاحها على العالم ، حيث دخلتها الكهرباء ، ووسائل الترفيه ومعالم الثقافة ، فكانت الرئة الوحيدة التي يتنفس بها أهالي الخليج ، قبل أن يتعرفوا على أي بلد من بلدان العالم .

ثم حدثت المعجزة . . حين انتشرت شائعات قوية مؤكدة عن مشاهدة بقع من النفط على سطح الأراضي في واحة القطيف . . الأمر الذي دفع شركات البترول إلى التسابق في الحصول على أمتياز التنقيب في أراضيها ، واستطاعت النقابة الشرقية الإنجليزية أن تمسك زمام المبادرة ، فانتدبت الميجر هلمز سنة 1923م ليفاوض جلالة المرحوم الملك عبد العزيز فتوصل معه إلى اتفاق ، منح بموجبه حق الإمتياز والأستثمار للنقابة الشرقية في شهر مايو1923م ، إلا أن النقابة تخلت عنها لعجوزها عن مواصلة الحفر وعدم تمكنها من بيع الإمتياز ، فألغيت الإتفاقية عام 1928م ، وبعدها تقدم عدد من الشركات للحصول على الأمتياز ، فحصلت سوكال الأمريكية ( استاندرداويل اف كلفورنيا ) على قصب السبق ، فمنحت أمتياز حق التنقيب والإنتاج ، وتم الإتفاق في 29 مايو 1933م / 4 صفر 1352م ، ثم تنازلت عن بعض أسهمها لشركات أمريكية أخرى ، لحاجتها إلى المزيد من الأموال الضخمة لإنفاقها في هذا المشروع ، فباعت لشركة أكسون 30% وتكساكو30% وموبيل 10 وحتفظت لنفسها من الأسهم بـ 30% ، وبموجب هذا التقسيم تغير اسم الشركة إلى ( أرامكو ) ، أي شركة الزيت العربية الأمريكية .

وقد بدأت أعمال المسح والتنقيب بعد وصول الجيلوجيين إلى جبل الظهران عن طريق الجبيل في 28 سبتمبر 1933م أعقبهم وصول الحفارين في بداية ديسمبر 1934م ، ولم تكن التنقيبات في أول الأمر مشجعة بعد حفر عشر آبار ، إلا أن البئر رقم (7) التي رأوا زيادة عمقها ، والتي تفجر منها الزيت بكميات تجارية على عمق 4727 قدماً . . كانت نقطة التحول في مستقبل الشركة وحياة المنطقة ، واستمر التنقيب ، فاكتشفت عدة حقول في منطفة الإمتياز ، فكان أكبرها حقل الغوار وبقيق والسفانية والقطيف .

لم يكن أحد يتخيل أن هذه المنطقة التي كانت تعيش على هامش القرون الوسطى أن تصبح قبلة العالم الإقتصادية ، فتعج بالوافدين من كل حدب وصول ، فتتغير أوضاعها رأساً على عقب ، فتكتحل عيون أهاليها لأول مرة بالكهرباء ، وتشق أراضيها خطوط الأسفلت ، وتقوم فيها المدن الحديثة الحافلة بالمباني والعمارات والفلات الأنيقة ، وتدوي في آفاقها محركات السيارات والمعامل والمصانع ، وتتوفر فيها وسائل المواصلات من مطارات وقطارات واتصالات سلكية ولا سلكية ، حتى أصبحت تفوق كثيراً من البلاد التي سبقتها في هذا المجال ، فكان لاكتشاف البترول الأثر الكبير على تطور الأوضاع الإقتصادية والإجتماية والعمرانية وتحسن الصحة العامة وانتشار التعليم ، وقد شاءت العناية الإلّهية أن تتداركها ، بعد أن تهاوت الأعمدة التي تتركز عليها حياتها الإقتصادية واحدا تلو الآخر.

لقد كان بناء هيكلها الإقتصادي سابقاً يقوم على ثلاث دعائم رئيسية هي : التجارة والغوص والزارعة ، فانهارت الدعامة الأولى وهي التجارة ، منذ أن بدأت تفقد مركزها الإستراتيجي ، كهمزة وصل بين تجارة الشرق والغرب ، وذلك بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح ثم فتح قناة السويس حيث تحولت طرق التجارة العالمية عنها إلى غيرها ، واقتصرت موانيها على التجارة المحلية للمنطقة ، ثم تقلصت أخيراً بعد أن نشأت مدينة الدمام ، وتم بناء ميناء الملك عبد العزيز الذي استقطب النشاط التجاري وحركة الإستيراد والتصدير.

وبعد الحرب العالمية الأولى بدأت الدعامة الثانية ، وهي مهنة الغوص تنهار هي الأخرى ، منذ أن نجحت زراعة اللؤلؤ الصناعي في اليابان ، فأدت كثرة نتاجه إلى هبوط أقيام اللؤلؤ الطبيعي وكساده في الأسواق العالمية ، فتضاءلت موارد الغوص التي كانت تدر الملايين على تجار اللؤلؤ والعاملين في هذه المهنة ، حتى أدت النتيجة إلى خسائر فادحة للتجار والممولين ، وإلى تفشي البطالة في صفوف اليد العاملة فيه وانتهى الأمر إلى العزوف عن هذه المهنة والتحاق أكثريتهم في أعمال صناعة البترول .

وصمدت الزراعة ، وهي المورد الثالث بعض الوقت ، حتى بعد الحرب العالمية الثانية وكان إنتاج التمور يشكل أهم مورد اقتصادي للبلاد ، حيث كان يصد منها إلى الهند وبلاد الخليج كميات كبيرة ، إلا أنها بعد اكتشاف البترول وتحسن مستوى المعيشة عند سكان الخليج بصورة عامة . . تضاءلت أهميتها حتى انتهى بها الأمر إلى العزوف عن استيرادها واستهلاكها ، وزاد الطين بله أن تنامي أعمال صناعة البترول أدى إلىامتصاص اليد العاملة في الفلاحة ، فارتفعت الأجور في الوقت الذي تدهورت فيه أقيام التمور وأصبحت لا تغطي تكلفة الإنتاج ، بالإضافة إلى نضوب أكثرية العيون القديمة ، وأدت النتيجة إلى إهمال النخيل ودمار تلك الثروة الزراعية العريقة التي لا تعوض .

وإذا كان لا كتشاف البترول إيجابياته ، كتوفر فرص العمل ورفع مستوى المعيشة وتطور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والعمرانية والصحية والتعليمية فإن له سلبياته كتدهور الصناعة المحلية والمهن التقليدية وهجر الزراعة وكساد التمور واستنزاف المياه الجوفية وإنهاء دور المدن القديمة كحواضر رئيسية ، ثم ماذا يكون في المستقبل بعد نفاذ هذا الكنز ؟ هل تعود عجلة التاريخ إلى الوراء ويعود السكان إلى أعمالهم التقليدية : إلى تجارة بائرة وغوص كاسد وزراعة مصحرة ؟ هذا ما يخبؤه المستقبل إلا أن تتداركهم عناية الله .

[ الصفحة السابقة ] [ البداية ]