ثقافتها عبر العصور الأسهام الثقافي على توالي العصور في القطيف لم ينشأ من فراغ ، ولم يولد من بيئة جاهلة ، وإنما قام على دعامة وطيدة من الإلمام بمختلف العلوم والفنون ، والتفاعل مع ثقافات كل عصر ، ومن ثم نرى هذا الإسهام يتجلى واضحاً في التراث الذي خلفه عدد كبير من العلماء والأدباء والشعراء على تعاقب الأجيال والأحقاب . فالموقع الجغرافي للقطيف ، والإتصال بالأمم والشعوب أدى إلى تلاقح الثقافات على صعيدها ، وإنجاب عدد كبير من العلماء والمفكرين ، كما أن للبيئة الشعرية أعظم الأثر في حشد هذا الزحم من الطاقات المتفوقة ، فالواحة بينابيعها وجمالها الطبيعي ، بالإضافة إلى التقائها بالبحر من جانب والصحراء من جانب آخر جعل منها بيئة شعرية رائعة ، التي تفتقت فيها المواهب وتفجرت فيها طاقات الإيحاء والإلهام . وقد كان الجاحظ يعجب من قبيلة بني عبدالقيس حين استوطنت هذه المنطقة ، حيث اصبحت أشعر قبيلةٍ في العرب ، فأنجبت خطباء وشعراء ، ولم يكن كذلك حينما كانت تقيم في سرّت البادية معدن الفصاحة ، والسبب في ذلك تمازج أهلها قديماً بمختلف الشعوب ، حيث كانوا يقطعون البحار ويجوبون الآفاق ، كما تفد إليهم الأمم على اختلاف اجناسها ، فتلاحقت ثقافتهم مع ثقافة غيرهم ، فكان سكان منطقة القطيف الفينقيون الأوائل أول من اخترع الحرف ، وابتدعوا ترتيب الحروف الأبجدية ، التي رسمها العرب قديماً ، وعرفت عند السريان والنبط والعبرانيين والآراميين . ويعتبر اختراع الحروف أحد مفاخر هذه المنطقة ، والتي تعزى إلى الفينقيين سكانها الأوائل ، إذا صحت الكتابات الأثرية ، التي عثر عليها في وادي الرافدين ، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هؤلاء القوم هم الذين اخترعوا الأبجدية ، ومن ابجديتهم تولدت الأبجديات الأخرى ، وتحدرت منها جملة خطوط ، كخط المسند ، الذي اشتق منه الخط الثمودي والأنباري والصفوي ، وكذلك الخط الأرامي الذي اشتق منه الخط السرياني والنبطي والحيري والسطرنجيلي والكوفي والجزم ، والخط اليوناني الذي اشتقت منه الأبجدية الأوربية . ولقد ظلت هذه المنطقة في محور تجاري وثقافي عبر القرون السالفة مع جيرانها وانعكست تلك الإسهامات في الآثار التي اكتشفت في وادي الرافدين ، وقد تجسدت في الإعترافات التي أدلى بها البابليون أنفسهم الذين أعطوا الكثير من الحضارة ، حيث يقرون - كما يقول رولنسون - بأنهم أخدوا أغلب معارفهم من سكان جزر عجيبة تقع في خليج فارس. ويضيف رولنسون : أن أولئك البداة ( سكان البحرين قديماً ) هم آباء المعرفة ، الذين كانوا أول من أتى بالحضارة ، ونقلها إلى المقيمين عند دجلة والفرات ، ومن المؤسف أنه لم يعثر على كتابات أثرية أو مخلفات ثفافية في هذه المنطقة ، تعود إلى العهود السالفة ، وربما تسفر التنقيبات في المستقبل عن اكتشاف شئ منها ، أما في العصور الإسلامية فقد حفلت كتب القدماء بذكر عدد كبير من العلماء والخطباء والشعراء يفوق العد والحصر ، ككتاب المفضليات للمفضل الضبي المتوفي سنة 168هـ ، وكتاب الأصمعيات لعبد الملك الأصمعي المتوفي سنة 214هـ ، وكتاب طبقات الشعراء لابن سلام الجحمي المتوفي سنة 214هـ ، وكتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة المتوفي 276هـ ، وحماسة ابي تمام ، وحماسة البحتري ، وكتاب خريدة القصر وجريدة العصرللعماد الأصبهاني ، وكتاب سلافة العصر لابن معصوم وكتاب الكشكول للبهائي ، وكتاب أنوار البدرين للشيخ علي البلادي وغيرها ممن ذكر فيها الكثيرون من علمائها وشعرائها ، وحوت نبداً من تراجمهم وإشارة إلى آثارهم ونخبة من أشعارهم . وكان لاتصال القطيف الوثيق بالعراق ، لا سيما بالنجف الأشرف حاضرة العلم الديني 000 أثر كبير في انتعاش الحركة العلمية فيها فكثير من علمائها ، لا سيما في العهود المتأخرة قد اتموا دراستهم في معاهدها ، وحصلوا على درجة الإجتهاد التي هي أسمى المراتب في العلم الديني . [ الصفحة السابقة ] [ البداية ] |